-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
وقفات رمضانيّة

إخراج زكاة الفطر نقدا هو الأفضل والأنفع

سلطان بركاني
  • 11692
  • 0
إخراج زكاة الفطر نقدا هو الأفضل والأنفع

في الأيام الأخيرة من شهر رمضان من كلّ عام، ومع اقتراب عيد الفطر، ينشط بعض الشّباب في بعض المساجد، وعلى مواقع التّواصل الاجتماعيّ، في إعادة نشر فتاوًى لبعض العلماء تمنع إخراجَ زكاة الفطر نقدا، ويتعمّد بعضهم الاستشهاد بقول جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة وبكلمة للإمام مالك– رحمه الله- وردت في المدونة الكبرى، نصّها: “ولا يجزئ أن يجعل الرّجل مكان زكاة الفطر عرضا من العروض (أي قيمة)، وليس كذلك أمر النبي عليه الصّلاة والسلام”.

ربّما كان بالإمكان أن نجد العذر لهؤلاء الشّباب المتحمّسين، لو كانوا يستندون فيما يحاجّون فيه إلى أدلّة شرعية قاطعة للنّزاع تنصّ صراحة على منع إخراج زكاة الفطر نقدا، وكان بالإمكان تفهّم موقفهم لو كانوا في بلد يُفتي علماؤه وهيئاته العُلمائيّة بمنع إخراج زكاة الفطر نقدا، كما هي الحال في السّعودية مثلا، وكان بالإمكان أيضا أن نجد لهم العذر لو كانوا يكتفون بالقول إنّ إخراج الطّعام أفضل وأحوط من إخراج النّقود؛ لكنّ هؤلاء الشّباب يروّجون في بلد يُفتَى فيه بجواز إخراج الزّكاة نقدا وجرى فيه العمل على ذلك، بأنّ إخراج زكاة الفطر نقدا لا يُجزئ، استنادا إلى نصوص ليس فيها البتّة ما يمنع إخراج القيمة، قصارى ما تضمّنته بيانُ الحكمة من فرض زكاة الفطر وهي إغناء الفقير وكفايته عناء الطّواف يوم العيد بحثا عن الطّعام، وبيان أفضل طريقة في تحقيق هذه الحكمة في زمان كانت النّقود فيه نادرة، وغالب المعاملات كانت تتمّ بالمقايضة، والطّعام هو ما كان متيسّرا لكلّ أحد إخراجه، من دون عناء أو مشقّة، وهو ما كان أنفع للفقير، ولهذا قال أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه: “كنا نخرجها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، صاعًا من طعام، وكان طعامنا يومئذ التمر والشعير، والزبيب والأقط”، وقد فهم الصّحابة رضي الله عنهم، وهم أعلم النّاس بمراد النبيّ- عليه الصلاة والسّلام- أنّ العبرة في الزّكاة عموما ليست بالمنصوص عليه وإنّما بما ينتفع به الفقير، ولهذا خرج الصّحابة عن المنصوص وأجازوا إخراج نصف صاع من القمح في زكاة الفطر؛ لأنهم رأوه معادلاً في القيمة للصاع من التمر، أو الشعير، في ذلك الزّمان، وأدلّ منه فعل معاذ بن جبل رضي الله عنه، فإنّه لمّا انتدُب لجمع الزّكاة من أهل اليمن في عهد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، كان يقول لأهلها: “ائتوني بخميس أو لبيس آخذه منكم مكان الصدقة، فإنه أهون عليكم، وخير للمهاجرين بالمدينة” (الخراج ليحيى بن آدم القرشيّ، ص147)، فإذا جاز أخذ البدل والقيمة في الزكاة المفروضة على الأنعام والزّروع والثّمار، فجوازها في الزكاة المفروضة على الرّقاب (زكاة الفطر) أولى.

أمّا استناد هؤلاء الشّباب إلى أقوال بعض الأئمّة والعلماء، فإنّ تلك الأقوال كانت اجتهادا في تقدير مصلحة الفقير وتقدير الأيسر لمن يُخرج الزّكاة، في زمانهم؛ فالطّعام في تلك الأزمنة كان موجودا في كلّ بيت، بخلاف النّقود التي وإن كانت موجودة، فهي لم تكن متداولة بصورة واسعة، ولم تكن عصبا للتّجارة كما هي الحال في القرون المتأخّرة. علاوة على هذا فإنّ أقوال هؤلاء الأئمّة تقابلها أقوال أخرى لأئمّة آخرين نصّوا على جواز إخراج القيمة، وبهذا قال الإمام أبو حنيفة وأصحابه، وقال به من التابعين عطاء وسفيان الثوري والحسن البصري، وبه عمل الخليفة عمر بن عبد العزيز رحمه الله، قال أبو إسحاق السبيعي (أحد أئمة التابعين): “أدركتهم وهم يؤدّون في صدقة رمضان الدراهم بقيمة الطعام” (رواه ابن أبي شيبة في المصنف)، وجواز إخراج القيمة هو قول جماعة من المالكية، كابن حبيب وأصبغ وابن أبي حازم وابن دينار، على ما يقتضيه إطلاق النقل عنهم في تجويز إخراج القيم في الزكاة، كما ذهب أئمّة آخرون منهم إسحاق بن راهويه وأبو ثور إلى جواز إخراج القيمة في حال الضّرورة، وذهب آخرون إلى جواز إخراجها عند الحاجة، وهذا القول هو رواية عند الحنابلة اختارها ابن تيمية رحمه الله، بل إنّ بعض العلماء الذين يُفتون في زماننا هذا بمنع إخراج القيمة، قد اضطرّوا إلى القول بجواز إخراج أصناف أخرى من الأطعمة لم يُنصّ عليها في الحديث، كالأرز مثلا، وقد قدّروا القدر الواجب من هذه الأطعمة بالنّظر إلى قيمة الأطعمة المنصوص عليها، في هذا الزّمان!

إنّه لأمر مؤسف حقا أن نجد علماء وأئمّة فقهوا المسألة ونظروا إلى المقاصد والحكم وأفتوا بجواز إخراج القيمة، في قرون لم تكن فيها النّقود عصبا للتّجارة والمعاملات، بينما يصرّ علماء ودعاة في زماننا هذا على منع إخراج القيمة وهم يرون كيف أصبحت النّقود عصبا للمعاملات، وأصبح من يملك نقودا في جيبه يجد طعامه وشرابه في كلّ وقت وفي كلّ مكان، بينما قد يملك الفقير السّميد مثلا، لكنّه لا ينتفع به إذا لم يجد ماءً أو غازا يطبخ به طعامه، وربّما يجد كلّ ذلك، لكنّه لا يجد من يُنضج له طعامه، خاصّة أنّ الأسر في هذا الزّمان تعتمد على الخبز، لأنّه أقلّ تكلفة وتكليفا، ولا يختلف اثنان في أنّ من يحتاج إلى الخبز لا بدّ له من مال، وقد حدث ويحدث أنّ كثيرا من الفقراء في السّعودية تتكدّس عندهم الأطعمة كلّ عام قبيل عيد الفطر، فيضطرّون إلى بيعها بأقلّ من سعرها، لأنّهم يحتاجون إلى المال ولا يحتاجون إلى كلّ تلك الكميات من الأطعمة، ولا شكّ أنّ في هذا ضياعا لحقّ الفقير، وضياعا للحكمة التي لأجلها شرعت زكاة الفطر، خاصّة في هذا الزّمان الذي تعدّدت فيه ضروريات الحياة، فلم يعد الطّعام هو كلّ ما يحتاجه الفقير يوم العيد؛ فقد يجد الفقير الطّعام، لكنّ أبناءه يظلّون حبيسي جدران البيت، لأنّهم لم يظفروا بكسوة العيد، فيتمنّى ربّ الأسرة لو يبيع طعامه وأثاث بيته لأجل أن يقتني كسوة لأبنائه.

إنّ الله– جلّ وعلا- يقول: ((لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّون))، ولا يختلف اثنان في أنّ الطّعام في القرون الأولى كان هو الأحبّ إلى القلوب، فكان إخراجه في زكاة الفطر هو الأفضل، أمّا في القرون المتأخّرة، فإنّ المال هو الأحبّ إلى القلوب، فيكون إخراجه هو الأفضل في زكاة الفطر، وبه يتحقّق التّيسير على من يخرج الزّكاة، ويتحقّق إغناء الفقير عن الطّواف يوم العيد.

لقد آن لهؤلاء الشّباب الذين أربكوا المجتمع بإصرارهم على تبنّي فتوى علماء السّعودية بمنع إخراج زكاة الفطر نقدا؛ آن لهم أن يحكّموا دينهم وعقولهم، ويُراعوا واقعهم، ويكفّوا عن هذا التعصّب المقيت، الذي أوقعهم في تناقضات كثيرة في مسائل كثيرة أخرى، لعلّ من أجلاها حكم التّصوير الفوتوغرافي، حيث ظلّ هؤلاء الشّباب مصرّين على تبنّي قول بعض علماء السّعودية بتحريمه، ليجدوا أنفسهم بعد سنوات في حرج أمام المجتمع بعد أن راجع كثير من أولئك العلماء موقفهم من التّصوير وصاروا يظهرون في وسائل الإعلام وتظهر صورهم على صفحات الجرائد وفي المواقع المختلفة!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!