-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
الأستاذ الدكتور محمد بوالروايح

إسقاط النظام.. فلسفة تروتسكية بتوابل ديمقراطية

محمد بوالروايح
  • 3077
  • 1
إسقاط النظام.. فلسفة تروتسكية بتوابل ديمقراطية

برزت فكرة إسقاط النظام بقوة في الفترة التي انتعشت فيها الفلسفة التروتسكية التي تبنت خطا راديكاليا لإسقاط ما تسميه “الأنظمة الشمولية” التي تميزها دكتاتوريةٌ ظاهرة ومنظومة حكم مستبدة، تصادر الحريات وتسوس الدولة والمجتمع بسياسة “ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد”. إن منطق الأشياء يقتضي أن تعمل الأنظمة التروتسكية -كما تُسمى في الأدبيات الثورية- على إصلاح ما أفسدته الأنظمة الشمولية وأن تكون بديلا ومثالا يُحتذى في تكريس الديمقراطية، ولكن التاريخ يحدِّثنا أن أغلبها تحوَّل إلى دكتاتورية جديدة لا تختلف كثيرا عن الدكتاتورية القديمة التي ناضل التروتسكيون لاستئصال شأفتها وتخليص الشعوب من رجسها.
إن أغلب ما يُسمى الأنظمة الديمقراطية التي قامت على أنقاض الأنظمة الشمولية، والتي تبنت منهجا ثوريا عنيفا، تحوّلت مع مرور الوقت إلى أنظمة استبدادية، وربما أكثر استبدادا وفسادا من سابقاتها، ولكنها أصرت على عنادها وعلى الدفاع عن فلسفتها وعن نفسها ضد من ينتقدها. إن تاريخ الثورات التروتسكية مليءٌ بمظاهر تقديس الزعيم الثوري الذي يمثل في أغلب الأحيان مشروع دكتاتور متستر وراء الديمقراطية الزائفة التي لم تصمد كثيرا وانكشف أمرها وأمر من تولوا كِبرها. هذه هي حقيقة أغلب الأنظمة الديمقراطية التي خدعت شعوبها ورمتها بدائها وانسلّت. ولكن من الإنصاف في هذا الصدد، أن نستثني بعض الثورات التي حافظت على صورتها الديمقراطية وسمعتها التاريخية، وأنتجت ديمقراطية حقيقية استطاعت الصمود أمام تيار الثورات المضادة.

ليست صورة الربيع العربي عنا ببعيد لنثبت من خلالها صحة ما ذهبنا إليه، فقد حمل الربيع العربي، إلا في استثناءات محدودة، وعودا وردية للشعوب العربية، ولكنه سرعان ما تنكّر لوعوده وانقلب على مبادئه وتحوّل في أذهان هذه الشعوب إلى سراب كاذب “يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا”، وتحوّل مشروعه التغييري إلى مشروع تدميري، قوّض أركان الدولة وأعادها القهقرى إلى زمن غزية وزمن الجاهلية الأولى.

“إسقاط النظام” فكرةٌ خطيرة لا تقلل من خطورتها محاولاتُ بعضهم تهذيبها وتأويلها على أنها تعني “التغيير الهادئ والانتقال السلس للسلطة”، هذا ما يقوله أصحابُ الفكرة ويوافقهم عليه المسبِّحون بحمدهم والسابحون في فلكهم، غير أن الحقيقة التي نلمسها في الواقع هي أن حكاية “التغيير الهادئ والانتقال السلس للسلطة” ليست إلا ضحكا على الأذقان وحيلة مبتذلة للانقضاض على الحكم باسم الشرعية الموهومة التي لم تكن إلا وسيلة لشرعنة الانقلاب تحت مسمى محاربة الفساد والاستبداد.

“إسقاط النظام” فكرة ليست بريئة، إنها طريقة جريئة في الغالب لحشد التأييد الشعبي من أجل تحقيق المبتغى ثم يبدأ بعدها مخاض عسير لا ينتهي إلا على صراعات سياسية واجتماعية لا تُبقي ولا تذر وتمزق المجتمع شذر مذر. إن فكرة “إسقاط النظام” فكرة تروتسكية مغالية لا يتأتَّى منها خيرٌ للبلاد والعباد وليست الطريقة المثلى لمحاربة الفساد والاستبداد، لأنها قد تولد فسادا واستبدادا أكبر من الفساد والاستبداد الذي ثارت وانتفضت ضده.

إن دعاة “إسقاط النظام” على أربعة أصناف:
– صنف تروتسكي مغال شديد الغلوّ، لا يُؤمَن جانبُه ولا يُؤمَل منه خير ولا يُنتظر منه تغيير، وهؤلاء إن تمكنوا من تحقيق مرادهم وتمرير مشروعهم سيعيدوننا إلى زمن داحس والغبراء وزمن الأوس والخزرج، زمن يغني فيه كل على ليلاه ويتغنى فيه كل حزب بحزبه وكل فصيل بفصيلته، وتكون النتيجة الحتمية بعدها أننا غيَّرنا الواجهة من دون أن يتغير شيء مما هو من صلب النظام الديمقراطي، وفي مقدمة ذلك الديمقراطية التشاركية التي تجعل الشعب مصدر كل سلطة، وتجعل كل مكوِّنات المجتمع شركاء في إدارة الدولة، كلٌّ من موقعه.

– صنف حسَنُ النية، حسَنُ الطوية يروم التغيير الهادئ ولكن أصابته عدوى تروتسكية فجنح إلى العنف والتطرُّف وربما قاد جزء منه عصيانا مدنيا جامحا ظاهره السلمية وباطنه دعوة صريحة إلى تقويض أركان الدولة تحت ذريعة “إنقاذ الأمة”، وهذا الصنف موجودٌ في واقعنا وفلوله تزحف نحو اكتساب الشرعية بالتوكّؤ على السلطة الشعبية.

– صنف أصابته عدوى تروتسكية ولكنه سرعان ما عاد إلى رشده وصحَّح مساره وهذَّب أفكاره وتبنَّى آلية التغيير المؤسساتي والمؤسس الذي يفضي بالضرورة إلى الانتقال السلس للسلطة بعيدا عن أي تهور سياسي يرهن مستقبل الوطن ويعرِّضه لما لا تحمد عقباه.

– صنف من قوم تبّع، لا يملكون مشروعا للتغيير، بارعون في تقليد غيرهم، يتخذون منهم قدوة وإن أوردوهم موارد التهلكة، وهؤلاء موجودون ونحن منهم وجلون، ونخشى أن يكثر سوادُهم وتتعزز جبهتُهم بما يهدد كيان الدولة وكيان المجتمع.

إنني أهيب بالحَراك الشعبي، الذي هو منا ونحن منه ما التزم السلمية وقواعد الشرعية، أن يسلك منهج التغيير الديمقراطي الذي ينقذ الدولة ويصحِّح مسارها ولا يقوِّض أركانها، فالدولة في علم الاجتماع السياسي أكبر من النظام، لأن النظام متغيرٌ والدولة ثابتة، وهذه الأخيرة تقوم على ثلاثة أركان وهي: الشعب والإقليم والسلطة السياسية.

وأهيب بالحَراك الشعبي أن يتدرَّج في مطلب التغيير، فالتغييرُ المتدرِّج هو الذي يوصلنا إلى برِّ الأمان، ولكن هذا لا يعني الانتقائية بإبعاد بعض المتسبِّبين في الأزمة وغضِّ الطرف عن البقية الباقية، بل يعني إبعاد كل من له ضلعٌ فيها، الذين يشكلون عائقا أمام بناء الجزائر الجديدة كائنا من كانوا فـ”الحقُّ فوق كل أحد والوطن قبل كل شيء” كما قال الإمام عبد الحميد ابن باديس رحمه الله.

وأهيب بالحَراك الشعبي أن يتمسك بأخلاقيات التغيير، حتى يسد الطريق أمام من يتخذونه وسيلة لضرب المؤسسات وإهانة الهيئات؛ فالتغيير الحقيقي هو التغيير الذي يُصلح ولا يقبِّح، ويوجِّه ولا يسفّه، ويحترم سنن وأخلاقيات التغيير التي تنأى به عن المسالك الخطيرة والسلوكات الشاذة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • خالد محمد

    حتى الإسلاموية لها نفس النهجية اسقاط النظام مثال إيران آيات الله الشيعة اولسودان الثانائي حسن الترابي عمرالبشير، وعندنا تخالفوا دفع الشعب ثمنا باهظا من دمه وقوته، والآن تحالفوا ليدفِّعوا الشعب ثمنا أخطر اضعاف مضاعة مما دفعه في خلافهم