-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
مقالات الوسطيّين 

إما أن تُغيِّر أو تتغيَّر أو تواجه قانون الاستبدال!

أبو جرة سلطاني
  • 1806
  • 16
إما أن تُغيِّر أو تتغيَّر أو تواجه قانون الاستبدال!
أرشيف

إذا كان الإكراه في الدّين لا يصنع متديّنين، والإكراه على الفضيلة لا يُنتج مجتمعا فاضلا.. فإنّ الإكراه على الرّأي، والعمل على إخضاع العقل لنمط واحد من التّفكير الخائف من التغيير، والمصطفّ مع المصلحة الملوّنة بالصّبغة الإيديولوجيّة، لا يصنع إلاّ أتباعًا مشلولين فكريّا، مشوّهين تنظيميّا، معاقين حركيّا، ومنهزمين نفسيا وثقافيّا وحضاريّا.. هؤلاء هم سبب هزائم الأمّة. وقد أثبت التّاريخ أنّ وجودهم في موقع قيادة الرّأي يعمّق الهوّة بين النّخبة وبين مدمني “الفكر المتربّص”، فإذا واتتهُم سانحة كشّروا عن أنيابهم، وأخرجوا ما كان مكبوتا في أعماقهم، فاكتشف خصومهم نقاط ضعفهم، فانقضّوا عليهم وأصابوهم في مقاتل.

الرّأي الحرّ لا يمكن أنْ ينمو إلاّ في بيئة صحيّة حرّة، يكون لكلّ صاحب فكر فيها حقّه الكامل في التّعبير بضوابط، وهامش في الخطأ في حدود. فالاستبداد الفكري هو العدوّ الأوّل للحوار. وتقديس الرّأي الفردي ـ مهما كانت منزلة صاحبه ـ فيه إهانة للعقل، ومصادرة لحقّه في اكتشاف الحصار المضروب عليه من بطانته التي تقدّس رأيه، إذا كان رأيه خادما لمصالحهم. فإذا خالفهم الرأي أو هدّد بعض مصالحهم دنّسوه وشيطنوه. وفي قصّة إسلام عبد الله بن سلام درسٌ عظيم لمن يريد أن يفقه حال الغوغاء مع قيادات الرّأي. خلاصتها: أنّ ابن سلام كان عالما من علماء بني إسرائيل في يثرب، سأل يوما رسول الله (ص) عن بعض المسائل التي يعلم أنه لا يعرفها غير الرّسل. فلما تلقّى أجوبتها الصّحيحة أسلم. وقال للرّسول (ص): إن اليهود قومٌ بُهت وإنهم إنْ يعلموا بإسلامي يبهتوني. فأرسل إليهم فقال: “أيُّ رجل ابن سَلاَم فيكم؟”. قالوا: حَبْرُنا وابن حَبْرِنا، وعالِمُنا وابنُ عالِمنا. قال: “أرأيْتم إنْ أسْلَم، أتُسْلِمون؟”. قالوا: أعاذه الله من ذلك! فخرج عليهم ابن سلام فقال: أشهد أْنْ لا إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمّدا رسول الله. فقالوا: شَرُّنا وابنُ شرِّنا وجاهِلُنا وابنُ جاهلِنا. قال: يا رسول الله، ألم أقل لك إنّهم قوْم بُهْتٌ. أهـ.

الاعتداد بالرّأي نرجسيّة قاتلة، وأبشع أشكال النّرجسيّة أنْ تظنّ إنك أنت الحقّ، ورأيَك الحكمة، وخطابك القرار.. فإذا تكلّمت وجب على الجميع الصّمت والإصغاء والسّمع والتّصفيق.. ومن تجرّأ على مقاطعك أو اعترض على رأيك، فقد ارتكب كبيرة “عقوبتها خاشقجيّة”. تبدأ بدعوة السّفهاء إلى تجريمك ورجمك بتغريدات جارحة هدفها الدّفاع عن الاستبداد، والتعصّب لشخص الزّعيم، ومصادرة الرّأي المخالف.. وتنتهي بالتصفيات الجسديّة. ولا عجب فقد كان واصل بن عطاء المخزومي تلميذا نجيبا في حلقة الحسن البصري، فجادل شيخَه حول حكم مرتكب الكبيرة، فلما تحوّل الحوار إلى جدل قال له شيخه: “اعتزلنا”. فخرج من حلقته ليؤسّس حلقة خاصّة به اجتمعت لها فرقة واسعة فُتن بأفكارها العالم الإسلامي كله، قديما وحديثا. هي فرقة المعتزلة. وكان بإمكان شيخه العالم الجليل استيعاب أفكاره بصدر أرحب وأفق أوسع، بدل أن يوحي له بفكرة الاعتزال ويصفع في وجهه باب الحوار.

هذا الخطأ التاريخي الصّغير، صار اليوم كبيرا في ثقافة كثير من النّخب التي لا ترى صوابا إلاّ رأيَها، ولا ترفع من شأن عالم ولا مفكّر ولا أديب ولا داعيّة.. إلاّ إذا كان من زمرتها، يسبّح بحمدها. فإذا خالفها الرّأي، أو جاء بما ليس على مزاج “شيخها”.. تحرّش به سفهاؤها فسفّهوا رأيه، وأنكروا عليه فكره، وأشاعوا حوله الأراجيف والتّهم ورموه بكل نقيصة، وقالوا فيه ما لم يقله مالك في الخمر.. وقد غفل كثيرٌ منهم عن حقيقة جوهريّة في حياة الناس، وهي أنّ الحقّ لا يُعرف بالرّجال، بل إنّ الرّجال هم الذين يُعرفون بالحقّ. فإذا عرف الإنسان الحقّ عرف حُماته. ولعلّ سبب هذه الأزمة المعرفيّة في عالمنا اليوم ناجمة عن سوء الخطاب الذي نسوّقه للناس باستخدام سيّء لأربعة مصطلحات ليست لها نفس المضامين.

ـ الحقّ والباطل: ومجالهما العقيدة واليقين المنقول من التّكاليف.

ـ الحُسْن والقبْح: ومجالهما الأحكام القيميّة، بعد تحرير المناط في السّبب والشّرط والمانع.

ـ الصّواب والخطأ: ومجالهما الفكر والحوار والرّأي والنّظر..

ـ الخير والشرّ: ومجالهما العمل وثمرته في الميدان وحجم نفعها وضرّها.

أشنع خطأ يقع فيه المتطرّفون، ويشايعهم المتعصّبون والمستبدّون والنّرجسيّون.. هو خلطهم بين هذه المصطلحات عندما يخاطبون الناس، فالرّأي عندهم حقّ وباطل، أو هو خير وشرّ، أو حسْنٌ وقبْح. والأصل أنه صواب أو خطأ. ورحم الله الإمام الشّافعي الذي قاده تواضع العالم إلى القول: “رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصّواب”، ولم ينسب لنفسه حصريّة الحقّ والباطل والحلال والحرام والخير والشرّ والجنّة والنار.. وكان الإمام مالك إذا سُئل عن شيء لا يجد له سندا شرعيّا قال: لا أحبّه. لا أستسيغه. لا يعجبني.. ولا يقول: هذا حلالٌ وهذا حرام، وهذا حقّ وهذا باطل، وهذا خير وهذا شرّ.. إلاّ إذا كان له على ما يقول سند من الكتاب والسنّة. أما رأيه فلا يجعله دينا ولا يفرضه على النّاس بذريعة أنه إمام دار الهجرة.

إنّ علم الرّواية شيء وعلم الدّراية شيء آخر. فمن حفظ صحيفة ملك حقّ رواية ما فيها. أما العلم بما فيها فليس متاحا لكل من تكدّست في حافظته أخبار القرون الأولى، فقد حمل بعض الأحبار والرّهبان ـ كما يحمل كثيرٌ من الغلاة اليوم ـ ما في كتبهم من أخبار رواها الأسلاف للأخلاف، ولكنّهم لم يفقهوا ما فيها، فضرب الله لهم مثلا بالقول: “مَثَلُ الذينَ حُمِّلُوا التّوْرَاةَ ثمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أسْفارًا” الجمعة: 5.

فيا أيها الذين تطرّفوا، إنّ العالم الذي نعيش فيه أوسع من بيوتكم الصّغيرة، ومن شوارعكم الجميلة، ومن أوطانكم العزيزة.. وهو ـ بكل تأكيد ـ أوسع من أفكاركم المحليّة وآرائكم النّخبويّة وحلقاتكم الموضعيّة وأحكامكم القطعيّة على أناس لم تناقشوهم، وحاكمتم نياتهم في غيابهم، وأصدرتم ضدّهم حكما جائرا.. روّيدكم: إذا لم تكونوا قادرين على استيعاب مقتضيات تداول الأيام بين الناس، في سنن التجديد والتغيير، فلا أقلّ من أن تختاروا بين واحدة من اثنتيْن.

ـ إما أن تفتحوا عقولكم لسماع رأي آخر تستمزجون به ما عندكم من محفوظات.

ـ وإما أن تفسحوا الطّريق أمام من يقول لكم: إنّ سنن الله قد قضت بأن يتغيّر العالم بتغيّر ما بأنفس الناس، فإذا لم تُغيّروا ما بأنفسكم طواعيّة، قيّض الله لكم من يغيّركم بقانون الاستبدال الجبْري الذي لا يحابي أحدا؛ فسنن الله غلاّبة، والطبيعة لا تقبل الفراغ.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
16
  • أبو مجد- قالمة

    الشيخ الأستاذ أبو جرة سلطاني بالنسبة إلي هو جهبذ وعالم وأحد فطاحلة الللغة العربية في الجزائر وخارج الجزائر ، هو مفكر بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وهبه الله قلما قل له نظير من خلال كتاباته ومقالاته التي لا يمل القارئ من تكرار قراءتها لما تحمله من قمة في الابداع لا تجده في مقال آخر، ولكن رغم ذلك تجد من المعلقين ممن هم مرضى النفوس يهاجمون الرجل لشخصه لا لعلمه، أقول لكم إن مثلكم والشيخ أبو جرة - حفظه الله وبارك لنا في علمه وأطال لنا في عمره -كمثل عنزة تنطح جبلا، فلا تتعبوا انفسكم من اجل النيل منه بتعليقات ساقطة لا تنم إلا عن وضاعة أصحابها و عن غل وحقد دفين، إني لا أرَ فيه إلا إبن باديس الجزائر .

  • السعيد الاسعد

    المبادئ لا تتغيّر لا في الزمان و لا في المكان و لا ينئى صاحبها عنها مهما كلّف بمهمّة غبارها أصل غلائها. فلا أُسْد تُخَافُ ان كانت انيابها في لحم بني جلدتها مُمَزِّقة و على جلود أعدائها مداعبة. الشموخ باق و بادٍ حتى في أحلك الليالي و لا شموخ لربوة رمل حتى في ريح كنفس رضيع نائم.

  • إلى م ب 12و13

    وجه لخروف معروف ( العتروس جامي يعطينا لحليب ) يصلح غير للذبيحة يوم العيد لكبير .

  • م.ب ( يتبع)

    لا أدري . هل الاخوة المعلقين يعلقون على نص الموضوع ؛ وما يحمله من أفكان؛ ومدى موضوعيته؛ وقيمته العلمية ؛ والمعريفية والثقافية ؛ وما يستنتج منه؛ ومن وراء سطوره ؛ والعبرة منه. أم صاحب النص الكاتب؟ أن كان الجواب على الشطر الاول من السؤال بنعم . فهذا هو المطلوب ؛ والمتعارف عليه.بل الواجب يفرض علينا " الحكمة ضالة المؤمن أين وجدها التقطها" ؛ والمعرفة؛ بجميع تخصصاتها ليس لها حدود؛ ولا سدود؛ ولا جنسية. بغظ النظر عمن ؟ ومن؟ هذا أذا كنا طلاب علم. اما ان كنا نحمل أحقادا ؛ أو نظرة مسبقة عن صاحب النص. فهذا شئ آخر؛ وتغيرت المعادلة من مجهول الى مجهولين؟ ولهذا نري بعض المعلقين سامحهم الله يصبون جام غضبهم

  • م/ب

    ورجائي من الاخوة المعلقين عبر هذا المنبر العزيز الشروق online . آلا يحرموننا من هذا المتنفس الوحيد الذي نجد فيه الصدر الرحب؛لا نجده في وسيلة أخرى غير الشروق. لكي نعبر؛ ونتناقش؛ ونتحاور عن بعد علىأساس قاعدة رأيك صواب يحتمل الخطأ؛ ورأ يي خطأ تحمل الصواب.. وبكل روح رياضية دون تزمة؛ أو نرجيسية؛ أو سب؛ شتم( وهي حجة الفاشلين). بل الحجة تقارع الحجة ؛ وليعلم الجميع أن الاختلاف رحمة؛ وسنة من سنن الكون والستفادة تكون متبادلة . وفي هذا يتنافس المتنافسون.. وأيضا أقول لاشقائنا في المغرب ؛ و الجمهورية العربية الصحراوية . أهلا؛ وسهلا بكم في الجزائر وعبر الشروق.. لم لن ضرعا؛ وما تفرقه السياسة تجمعه الشروق..

  • م/ بـ

    لا أدري . هل الاخوة المعلقين يعلقون على نص الموضوع ؛ وما يحمله من أفكان؛ ومدى موضوعيته؛ وقيمته العلمية ؛ والمعريفية والثقافية ؛ وما يستنتج منه؛ ومن وراء سطوره ؛ والعبرة منه. أم صاحب النص الكاتب؟ أن كان الجواب على الشطر الاول من السؤال بنعم . فهذا هو المطلوب ؛ والمتعارف عليه.بل الواجب يفرض علينا " الحكمة ضالة المؤمن أين وجدها التقطها" ؛ والمعرفة؛ بجميع تخصصاتها ليس لها حدود؛ ولا سدود؛ ولا جنسية. بغظ النظر عمن ؟ ومن؟ هذا أذا كنا طلاب علم. اما ان كنا نحمل أحقادا ؛ أو نظرة مسبقة عن صاحب النص. فهذا شئ آخر؛ وتغيرت المعادلة من مجهول الى مجهولين؟ ولهذا نري بعض المعلقين سامحهم الله يصبون جام غضبهم

  • الواضح الصريح

    رب لخوانجية كيف كيف ، لا ثقة ولا أمان فيهم ، كلهم مصابون بجرثومة النفاق والتملق والخبث والتآمر وغريزة الإرهاب والتخريب .

  • الساسي

    يجب أن تكافئك إسرائيل على إرسال آلاف الشباب الجزائري إلى أفغانستان لمحاربة السوفييت ، لأن هؤلاء الشباب ساهموا في انهيار الاتحاد السوفييتي الذي أدى إلى هجرة نحو مليونين يهودي إلى إسرائيل.!

  • سي الهادي

    مع أنه راق ممتاز وإنسان طيب إلا أني أراه باندي اكبير ( هو أفضل من مقري وجاب ربي )

  • رشيد تلمسان

    الموضوع جيد و لكن لما الرجوع الي الايام الغابرة و مالك و البصري و المعتزلة هل توقفت عقارب الساعة عندهم . يجب تحيين الثقافة يا اخي .

  • جنوبي

    إما أن تُغيِّر أو تتغيَّر أو تواجه قانون الاستبدال!

    هذا العنوان يتحدث عن صاحبه الذي استبدلوه بالسيد مقري
    ورغم تظاهره بانه تغير عما كان عليه في السابق من الغلو والتشديد وارسال الشباب الى افغانستان الا ان طريقة كلامه تدل على انه لم يتخلص تماما من افكار الماضي والسبب ان الذي غير هذا الرجل هو السياسة ليس الا .وبما ان السياسة مصالح فهي لاتغير اصحابها من الجذور والبواطن بل تلامس بعض السطحيات والمظاهر
    اتمتى ان يتخلص من هذا النزاع الذاتي _ان صح التعبير_

  • okba

    mashallah allah yahfdek chikhnawafaka allah

  • م/ أولاد براهيم.

    نصيحة تلميذ الى الاستاذ. ياأستاذ .هذا هو مجالك الطبيعي؛ ومجال نشاطلك العلمي التثقيفي التربوي الديني . بهذا الموضوع كم تهاطلت عليك من دعوات الخير . موضوع كهذا لما فيه من فوائد؛ وحكم ؛ ومواعيض.ودروس. يساوي كل السنين التى قضيتها في السياسة؛ وزيادة ! كل كلمة .كل جملة عبارة عن درس بمفرده. ياأستاذ نحن في حاجة ماسة الى مثل هذه الدروس المقروءة ؛ بعيدا عن خطب الوعض؛ والارشاد التى تنسى مباشرة بعد الخروج من القاعة!! وعدد المتلقين ؛ ونوعيتهم محدود. أما مثل هذا الدرس . فعدد قرائه لا يعلهم الا المدى الذي تصل اليه جريدة الشروق اليومية داخل؛ وخارج الوطن .فلك ألف تحية؛ وللشروق مثلها. زدنا نحن في الانتظار

  • franchise

    - واضح من كتابات صاحب المقال أن وسطيّته إنتقائية ، هاجسها المتطرّفون الإسلاميين أكثر من المتطرّفون العلمانيون، رغم أن كثير من التطرّف الإسلامي يستمدّ ذخيرته ووقوده من تطرّف العلمانيين. فمبادرته مثلاً رحّبت بكلّ أطياف العلمانيّة، و لكنّها رفضت بعض أطياف الإسلاميين، فلاحظوا هنا كيف يعاتب حسن البصري في طريقة تعامله مع المعتزلة ، ثم سلك نفس نهج البصري في مبادرة الوسطيّة...
    - لا مكان للتطرّف في الوسطيّة، سواء كان إسلاموي أو علماني ، و إلاّ فهي ليست وسطيّة .

  • وضاح أحمد

    هذا إبداع
    هذا المقال جدير بالقراءة أكثر من مرة

  • صياد كمال خنشلة الاوراس

    مقال راءع حبذا يعمل به كل مسلم كل فى مكانه لعل احوالنا تنتقل من الاسوء الى الاحسن