الرأي

إنها نهضتنا الخامسة…

محمد سليم قلالة
  • 736
  • 5
ح.م

عندما بدأت الأمة الإسلامية تُقاوم الموجة الاستعمارية في القرن التاسع عشر، تَولَّت قيادة هذا التصدي ثُلَّة من أبنائها، بفكر وعزيمة سجلهما التاريخ. قاوم في نفس الفترة الزمنية كل من الأمير عبد القادر في الجزائر، الإمام شاميل الدغستاني في شمال القوقاز والشيشان، والسلطان بهادر شاه المغولي في شبه القارة الهندية. واتحد قادة موجة الاستعمار القديم من عسكريين ومُستشرقين إلى أن تمكنوا من أسر هؤلاء الثلاثة.. ونُفي كل منهم تِباعا إلى دمشق ومكة وبورما. إلا أن التاريخ خلّد مقاومتهم في إطارها الفكري والحضاري المُتميِّز، وما زلنا نتعلم منهم إلى اليوم. ولعلها كانت تلك هي موجة التصدي والتغيير الأولى.

أما الثانية فلم تتأخر طويلا، حيث انبرى لأخذ مشعل المقاومة مفكرون وسياسيون ومثقفون لخوض معركة الوعي فيها، لأجل منع تحول الهزائم العسكرية إلى هزيمة ثقافية وحضارية تقضي على ما بقي حَيَّا بداخل هذه الأمة. فكان من بينهم جمال الدين الأفغاني، وعبد الرحمان الكواكبي، ومحمد عبده، ورفاعة الطهطاوي، وخير الدين التونسي، الذين تركوا لنا اجتهادات في الفكر السياسي وأساليب إعادة بناء الأمم مازالت صالحة إلى اليوم، إذ رغم مقارباتهم المختلفة للإجابة عن سؤال النهضة والإصلاح والثورة، كان كل منهم ينطلق من زادٍ فكري عميق، وتجربة فذة، وثقافة واسعة وليس من خواء. وحتى وإن لم يُحقِّقوا طموح الأمة في الوحدة والنهضة أنذاك، وتمكَّن الغرب مرة ثانية من تمزيقها، وزرع نُخَبِه التغريبية بداخلها، إلا أنهم بلوروا مرجعيات فكرية وسياسية مازلنا نتعلم منها إلى اليوم.

وجاءت موجة التغيير الثالثة في فترة ازدادت شوكة الاستعمار فيها قوة، وسلطته إحكاما. فكان على قادة الفكر والسياسة في بداية القرن العشرين الانطلاق من واقع صعب ومرير، يُطبِقُ عليه الفقر والجهل والمرض. ومع ذلك فإن أمثال عمرو بن قدور، وعمر راسم والأمير خالد ومصالي الحاج وابن باديس وابن نبي في الجزائر، وحسن البنا في مصر وشكيب أرسلان في لبنان وأبو الأعلى المودودي، ومحمد إقبال وأبي الحسن الندوي في شبه القارة الهندية وعلى شريعتي في إيران… تمكنوا من طرح مشاريعهم الفكرية والسياسية التي مهدت للثورة على الاستعمار. وتحقق ذلك. إلا أن الاستعمار الجديد تَمكَّن من مُصادرة جهودهم الفكرية والسياسية أو تحويرها عن غايتها.

وهو الأمر الذي حصل في موجة التغيير الرابعة ما بعد الاستعمار التقليدي في النصف الثاني من القرن العشرين. لقد تم القضاء أو تشويه أو تحييد رموز الأمة الفكرية والسياسية الأصيلة. وتم إحلال الصراعات بينها بدل التكامل. وجرت عملية تضخيم إعلامي وسياسي كبير لأسماء جعلت نفسها في خدمة التغريب باسم العصرنة والعالمية والتقدم، مُقابل تشويه كل ما له علاقة بالأصالة والجذور والتاريخ العميق… فكانت شعارات محاربة الرجعية والأصولية والظلامية وما إلى ذلك من الصفات…

ووصلنا مع بداية القرن الحادي العشرين وبالضبط منذ 2011، إلى موجة التغيير الخامسة، وليس أمامنا سوى أن نستفيد من خبرة أكثر من قرنين من مقاومة المستعمِر… إما أن نربط حركتنا اليوم ومستقبلنا في الغد بخلفيته الحضارية والتاريخية، أو نضيع في متاهات لا حدود لها، بلا رموز ولا حضارة، ولا قيم، ولا وعي بالتاريخ… وذلك ما يريدونه لنا… وعلينا أن نمنع حدوثه: بإمكاننا اليوم أن نبلور مشروعنا السياسي والحضاري التاريخي. بإمكاننا أن نتحول إلى مصاف التكتلات الكبرى بنهضتنا الخامسة… ليست الأمم الصينية أو الروسية أو الأمريكية اللاتينية أو الإفريقية الصاعدة، بأفضل مِنّا. إنهم يعيدون إحياء أمجادهم وتاريخيهم بمعنى الكلمة، ولم ينساقوا ضمن وهم كاذب يروّج له التغريبيون: وَهْمُ الحضارة الغربية “العالمية”! رغم أنها لم تبق سائدة سوى في القارة العجوز وشمال أمريكا الهجين…

مقالات ذات صلة