-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

إنّها دنيا وليست جنّة

سلطان بركاني
  • 9346
  • 0
إنّها دنيا وليست جنّة

الحياة الدّنيا دار لا يقرّ فيها قرار ولا تدوم فيها حال. تسرّ وتفرح حينا وتضرّ وتحزن حينا آخر.. مهما اجتمع للعبد من نعمها، فإنّه لا بدّ أن يشاك بشوكها.. لا يكتمل فيها نعيم المرء مهما ملك ومهما جمع، ومهما توفّر له من أسباب الرّاحة والهناء، فإنّه لا مناص من أن تمرّ به أوقات ولحظات يتنغّص عليه فيها عيشه ويتكدّر فؤاده، ولو كان ملكا يُؤتمر بأمره ويُسعى إليه بكلّ ما تشتهيه نفسه وتلذّ عينه.

كم من زعيم وكم من ملك عاش حياته منعّما فيما يبدو للنّاس، لكنّه في خاصّة نفسه لا يكاد يجد لحياته لذّة ولا طعما، وكم من ثريّ يحسده الحاسدون ويتمنّون مقامه، وهو في حقيقة أمره يتمنّى لو كانت السّعادة تُشترى بالأموال لينفق كلَّ ما يملك لتحصيلها.. يُروى أنّ الزّعيم الفرنسي “نابليون بونابرت” قال في أواخر أيام حياته: “لم أعرفْ ستة أيامٍ سعيدة في حياتي”.. وقبله بقرون نقل عن الخليفة الأمويّ هشام بن عبدِ الملكِ أنّه قال في آخر عمره: “عددتُ أيام سعادتي فوجدتُها ثلاثة عَشَرَ يوماً”.. هؤلاء يتنعّمون ظاهرا، لكنّ قلوبهم وأرواحهم لم تعرف للنّعيم لذّة ولا طعما إلا أياما قليلة من أعمارهم، وفي مقابلهم عباد لله مسلمون مؤمنون متّقون، ربّما يعيش الواحد منهم بالكفاف وربّما يحرم كثيرا من ضروريات العيش في هذه الدّنيا، لكنّه يجد من الأنس والسّعادة في قلبه وروحه، ما يستغرق غالب أحواله وأوقاته، ومع ذلك، فإنّه لا بدّ أن تمرّ به هو الآخرُ لحظاتٌ يصيبه فيها شيء من لفح هذه الدّنيا.. لا شيء يكتمل في هذه الحياة كما نحبّ ونتمنّى، فمن مُتّع بالصحة والعافية ربّما يُبتلى بشيء من الهمّ والغمّ، ومن رُزق المال ربّما يحرم الأبناء، ومن مُتّع بالأموال والأولاد ربّما يُبتلى بالأمراض والأسقام، ومن سلم منها ربّما يُبتلى بالهمّ وتغيّر المزاج، وهكذا… ما من عبد في هذه الدّنيا إلا وقد بُلي بفقد قريب أو حميم أو فوات حظّ كان يحرص عليه ويتلهّف إليه أو نقص في نعم كان يتمنّى دوامها وتمامها.. محال أن يعيش الإنسان حياته كلّها من أوّلها إلى آخرها من دون مكدّرات أو منغّصات، فلا بدّ مع الشّهد من إبر النّحل، ولا بدّ مع الورد من إبر الشّوك.

لولا أكدار هذه الحياة الدّنيا لغفل العبد عن الموعد والمنتهى، ونسي أنّه في دار لا بقاء لها وأنّه عمّا قريب سيرحل عنها.. يقول جلّ شأنه: ((وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ)).. لولا المنغّصات التي تعتري العبد في هذه الحياة لتمنّى الخلود في هذه الدّار ولبغى فيها وطغى، فالأكدار تقرع قلبه وروحه بحقيقة هذه الحياة الدّنيا وتذكّره بالعمل لدار لا شقاء فيها ولا كدر؛ دار نعيمها لا يشوبه نغص، فرح دائم وسعادة أبدية وبهجة لا تنقطع، لا همّ ولا غمّ ولا حزن. لا يسمع فيها العبد غير ما يسرّه، لا نصب ولا صخب ولا جدال. أهلها يحبّ بعضهم بعضا، لا تنافس بينهم ولا غلّ ولا حسد، ((إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِين)).

لهذا، فالعبد المؤمن يعيش هذه الحياة الدّنيا كما هي؛ لا يطلب الكمال ولا يرجو دوام الحال؛ إن أصابته سرّاء شكر وتذكّر أنّ نعيم الجنّة أعظم وأبقى من ذلك النّعيم الذي أدركه، وإن أصابته ضرّاء تذكّر أنّ هذا الذي أصابه من لوازم هذه الحياة الدّنيا الفانية، وأنّه مهما بدا عظيما، يبقى هيّنا أمام ما يلقى العبد الشقيّ في دار الشّقاء، وأنّه يُنسى مع أوّل غمسة في الجنّة، ((وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُوم)).

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!