-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الأبعاد الإستراتيجية لطوفان الأقصى

ناصر حمدادوش
  • 290
  • 0
الأبعاد الإستراتيجية لطوفان الأقصى

يكاد يُجمِع المراقبون والمحلِّلون بأنَّ جولة المواجهة الجديدة بين المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها كتائب الشَّهيد عزَّ الدِّين القسَّام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية- حماس والكيان الصُّهيوني تختلف تمامًا عن باقي المواجهات والجولات السَّاخنة في الصِّراع الوجودي بينهما، وهو الحدثُ الاستراتيجي غير المسبوق منذ 75 سنة، سواء من حيث المسارات أو المآلات، وهو ما يضفي عليه أبعادًا استراتيجية عميقةً مهما كانت نتائجه، إذ ستكون حربًا قاسيةً وطويلة، والتي لامَسَت في جوهرها المخاطر الوجودية لمستقبل الكيان الصُّهيوني، وهو ما يفسِّر هذا التدخُّل الغربي الدَّاعم وبشكلٍ قويٍّ ومباشر، وعلى رأسهم الحِلف الصَّليبي المتصهين، الرَّاعي لهذا الكيان، والمتكوِّن من: أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا.

والظَّاهر بأنَّ الإعداد لهذه المواجهة كان على قدْرٍ عالٍّ جدًّا من التخطيط والدقة والاحترافية، وقد تميَّزت بسلسلةٍ من المفاجآت المدوية من نواحي الحجم والنوعية والأداء.

من حيث التوقيت:

مارست “حماس” خداعًا استراتيجيًّا كبيرًا منذ مدَّة، كما كانت كتائب القسَّام منشغلةً بالاستعداد الكامل والجهوزية التَّامَّة للهجوم والدفاع معًا، رغم معرفة السُّلوك الهمجي لردِّ الفعل الصُّهيوني الفاشي.

لقد كان التوقيت في غاية الدقَّة والحِكمة، إذ تزامنت المواجهة مع يوم السَّبت، عطلة الكيان الصُّهيوني، واختتام مناسبة الأعياد الدينية له، وعلى موعدٍ من بركات قوله تعالى: “والمُغِيرَاتِ صُبحًا” (العاديات:03)، بعد ذروة الغرور الصُّهيوني باعتداءاته المتكرِّرة على المسجد الأقصى المبارك، وهو الذي كاد أن يُحْكِم قبضته بالتهويد النِّهائي له، فأتاه هذا الهجومُ من حيث لا يحتسب، وأصيب بأكبر نكبةٍ وإهانةٍ في تاريخه.

الصَّدمة بالفشل الاستخباراتي والانهيار العسكري:

في الوقت الذي تمَّ التسويق للصُّورة الخرافية للجيش الذي لا يُقهر، وجهاز الاستخبارات الأسطوري في العالم، تتمكن المقاومة من القيام بهذا الهجوم الضَّخم، برًّا وبحرًا وجوًّا، من دون أن يثير أدنى انتباه كلِّ استخبارات العالم، وهو ما يؤكِّد التفوُّقَ الاستخباراتي للمقاومة.

– حصيلة ثقيلة في وقت قياسي: إذ استطاعت المقاومة، وخلال ساعات قليلة، تمَّ تعطيل الرادارات، وقطع الاتصالات، واختراق الحواجز، وتدمير الحصون، والسيطرة على سبع مستوطناتٍ في غلاف غزة، وكانت الحصيلة من ناحية عدد القتلى في صفوف الجيش الصُّهيوني والشرطة الإسرائيلية وقطعان المستوطنين ثقيلة جدًّا، لم يذق العدو الصهيوني مرارتها منذ قيام هذا الكيان سنة 1948م، وكانت الغلَّة في عدد الأسرى – عددا ونوعًا – ما لم يحدث في تاريخ هذا الصِّراع، وكان عدد المفقودين في صفوف العدو الصُّهيوني ما أربك دقَّة المعلومات، ولم يصل إلى معرفته إلى الآن.

وبغضِّ النَّظر عن النتائج والمآلات لهذه المواجهة من ناحية عدد الضَّحايا من الجانبين، فإنَّ ذلك ليس معيارًا في قياس نتائج الربح والخسارة، إذْ مهما بلغت حصيلة الشهداء، والتدمير في عالم المادة والأشياء فهي رخيصةٌ من أجل تحرير المسجد الأقصى المبارك، وهو ثمنٌ طبيعيٌّ في طريق حرِّية الأمم واستقلال البلدان وتقرير مصير الشُّعوب، وهو ما تشهد له تجارب الدول جميعًا، مهما كانت دياناتها وثقافاتها، وهي وفق عقيدتنا وتصوُّرنا الإسلامي شرفٌ عظيمٌ على طريق الجهاد والاستشهاد، والحياة أو الموت في سبيل الله.

ولذلك فإنَّنا معنيون بهذا التراكم الاستراتيجي للفعل المقاوِم، والذي يقرِّبنا أكثر من المعركة الفاصلة والشاملة.

ومن الأبعاد الإستراتيجية لهذه المواجهة:

1 / إسقاط هيبة هذا الكيان الصُّهيوني عالميًّا: بالرغم من حجم نفوذه في الدول الغربية، واختراقه للدول العربية، والعلوِّ الكبير الذي لم يصل إلى مثله في التاريخ اليهودي، وبالرغم من حجم الترسانة النووية والعسكرية والاستخباراتية والتقنية والتكنولوجية واللوجيستية، وبالرغم من حجم وقسوة الحصار المضروب على قطاع غزة لمدة 16 سنة، برًّا وبحرًا وجوًّا، فقد استطاعت المقاومة  -وبإمكاناتٍ ذاتيةٍ متواضعة- أن تُسقط هذه الأسطورة، وتبدِّد هذا الوهم، وتزعزع الثقة في هذه الخرافة بهذه العملية النوعية، وهي الصورة التي يصعب على هذا الكيان السَّرطاني ترميمها، مهما بالغ في همجيته وإجرامه وإمعانه في ردِّ الفعل، وصدق الله تعالى في عمومية المعنى عن اليهود عبر التاريخ في قوله: “لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى، وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ” (آل عمران:111)، والفرق بين الضَّرر والأذى، أنَّ الأذى مؤقتٌ وظرفي، ولن يدوم، وأنَّ العاقبة في القانون العام: “ثمَّ لا يُنصَرون”، فستضيف هذه المعركة رصيدًا هائلاً من المعنويات واليقين في زوال إسرائيل، بل قرَّبت تحقُّق هذه الحتمية، وجعلتها حقيقةً ماثلةً للعيان، وبالمقابل فإنها زرعت شكًّا عميقًا وتضعضعًا كبيرًا في جدار سردية الحقِّ اليهودي في فلسطين، إذْ لا مستقبل لهم تحت الشَّمس.

2/ النتائج العكسية لمخططات تصفية القضية: ستترك هذه العملية آثارًا عميقة في الوجدان الصُّهيوني، وفي جدوى قيام هذه الكيان، وهَدِّ مقوِّمات بقائه، ومدى قدرته على الحفاظ على مكتسباته، فهي ستتسبَّب في هجرةٍ عكسيةٍ للإسرائيليين، وفي اهتزاز العقيدة العسكرية لدى الصَّهاينة، وستضرب هذا الكيان في عمق استراتيجيته للتمدُّد في الأرض الفلسطينية بالاستيطان، والتغوُّل بالتطبيع في المنطقة العربية، وستتراجع أهميته الإستراتيجية لدى الدول الغربية، مهما أبدت مساندته الاضطرارية، إذْ سيكون عبئًا ثقيلاً عليهم في المستقبل.

فقد نشرت صحيفة “هآرتس” مقالاً للكاتب “آري شبيت”، تحت عنوان: “إسرائيل تلفظ أنفاسها الأخيرة”، قال فيه: “يبدو أنَّنا نواجه أصعب شعبٍ عرفه التاريخ، ولا حلَّ معهم سِوى الاعتراف بحقوقهم، وإنهاء الاحتلال..”، وأضاف : “يبدو أننا إجْتَزْنا نقطة اللاَّ عودة، وأنه لم يعد بإمكان “إسرائيل” إنهاء الاحتلال ووقف الاستيطان وتحقيق السَّلام”.

نشرت صحيفة “هآرتس” مقالاً للكاتب “آري شبيت”، تحت عنوان: “إسرائيل تلفظ أنفاسها الأخيرة”، قال فيه: “يبدو أنَّنا نواجه أصعب شعبٍ عرفه التاريخ، ولا حلَّ معهم سِوى الاعتراف بحقوقهم، وإنهاء الاحتلال..”، وأضاف: “يبدو أننا إجْتَزْنا نقطة اللاَّ عودة، وأنه لم يعد بإمكان “إسرائيل” إنهاء الاحتلال ووقف الاستيطان وتحقيق السَّلام”.

3/ الدلالات العميقة لتوحيد ساحات المقاومة: كان عنوان هذه المواجهات الأخيرة: “سيف القدس” سنة 2021م، و”طوفان الأقصى” سنة 2023م إيذانًا بالدخول في مرحلةٍ جديدةٍ من الصِّراع، وهي تجسيدٌ لشعار: “اليوم نغزوهم، ولا يغزوننا”، مما أعطى زمام المبادرة وقرار الحرب والسِّلم للمقاومة، وتعمَّقت مبرِّرات القرار بالبُعد العقائدي المعبِّئ لكلِّ مشاعر المسلمين، وهو الاعتداءات الهمجية على القدس والأقصى، وهو العنوان الجامع لكلِّ مكونات محور المقاومة، وتوسَّعت دائرة الفعل المقاوم، لتشمل التوغُّل في العمق الصهيوني في المستوطنات والضفَّة وأرض 48.

ولأوَّل مرَّةٍ منذ قيام هذا الكيان سنة 1948م تدور رَحَى المعارك الضَّارية والمواجهات المباشرة داخل المستوطنات، والأراضي التي يزعم هذا الكيان بسط سيادته عليها، فبعد تحرير غزة سنة 2005م، ها نحن نشهد تهجير قطعان المستوطنين من المستوطنات في غلاف غزة، وإعلانها مناطق عسكرية خطيرة.

وفي الوقت الذي يسعى هذا العدوُّ إلى تهجير سكان غزة إلى “سيناء”، عبر ما يسمَّى “الممرات الإنسانية الآمنة”، في محاولةٍ يائسة لكشف ظهر المقاومة، وتفريغ حاضنتها الشعبية، والاستفراد بها، والتمهيد لسياسة الأرض المحروقة، وتصفية المقاومة وجوديًّا، فإن المقاومة تتبع استراتيجيةً معاكسةً بالتركيز على قصف مستوطنات بعينها بآلاف الصواريخ، والتغطية على عمليات التسلُّل إليها، وتهجير المستوطنين منها، والتمهيد لتحريرها نهائيًّا، ولن يتجرَّأ أيُّ صهيونيٍّ على العودة إلى ذلك الجحيم، والذي لم يخطر على بال أحدٍ منهم عجزُ تلك المنظومة العسكرية والأمنية الصهيونية عن حمايتهم، وتوفير الأمان لهم مرةً أخرى، ولن يكون حالُ تلك المستوطنات بعد هذه المواجهة كما كان قبلها، مهما كانت نتائج هذه المعركة، فكثيرٌ من المستوطنين قالوا في تصريحات وحوارات نشرتها وسائل الإعلام الصهيونية بعد اليوم الأسود في تاريخهم 07 أكتوبر 2023م إنهم لن يعودوا إلى المستوطنات مرة أخرى، بل إنهم يفكِّرون جدِّيًّا في الهجرة من إسرائيل بسبب فقدان الشُّعور بالأمان فيها، وهذه من الانتصارات الكبرى التي حقَّقتها المقاومة حتى الآن.

4 / إستراتيجية المقاومة مع الأسرى:

ملف الأسرى ضمن سُلَّم أولويات المقاومة، وكما هو ملفٌ إنسانيٌّ لأكثر من 5 آلاف أسير ينتظرون معجزةً لتحريرهم، فإنهم ليسوا مجرد أرقام في السجلات الصُّهيونية، وهناك مَن وصل إلى رمزيات أسطورية في الاعتقال في ظلِّ وحشية سجون الاحتلال الصهيوني، ما تتواضع أمامها أسطورة “نيلسون مونديلا” الذي قضى 25 سنة في سجون “الأبارتايد”، وهو ما يفرض على المقاومة الوفاء لهؤلاء الأبطال، فما فَتِئت مغامراتها في أسْر الجنود الصهاينة، لا من أجل التنكيل بهم، ولكن من أجل مبادلتهم، مثل صفقة “وفاء الأحرار” في 18 أكتوبر 2011م، إذ تمَّ استبدال “جلعاط شاليط” الذي بقي في يد المقاومة أكثر من 05 سنوات، بنحو 1027 أسير فلسطيني.

بيد المقاومة الآن – وحسب الاعترافات الرسمية للكيان الصهيوني – 120 أسير، وهو رقمٌ صغيرٌ أمام الحقيقة، ولكنه كبيرٌ جدًّا في ميزان الصِّراع، ويكفي لتبييض كلِّ سجون الاحتلال.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!