الرأي

الأحزاب الكبيرة وذوبان كرة الثلج

محمد بوالروايح
  • 1918
  • 7

لم تعُد الأحزاب الكبيرة التي هيمنت على المشهد السياسي في الجزائر وحصدت أغلب مقاعد المجلس الشعبي الوطني والمجالس المحلية المتعاقبة لسنوات في عهد النظام السابق كبيرة كما كانت بل عادت إلى حجمها الطبيعي، بعيدا عن عملية النفخ التي جعلت منها كتلة أشبه بكُرة الثلج التي سرعان ما تذوب وتتلاشى حتى لا تصبح شيئا مذكورا.

لقد فشلت الأحزاب الكبيرة أو أحزاب الموالاة -كما تسمى- في ترشيحات المجلس الشعبي الوطني في جمع العدد الخيالي من الاستمارات التي كانت  فيما مضى تُحمل إلى المجلس الدستوري في صناديق تنوء بالعصبة أولي القوة، واكتفت بجمع ما تيسر بما يضمن لها المشاركة في الاستحقاق الانتخابي بعيدا عن حلم الفوز الخرافي.

ذابت كرة الثلج في بدايات أول امتحان نيابي وأصبحنا نقرأ في الإعلام عن أحزاب كبيرة استوت مع الأحزاب الصغيرة في عدد التوقيعات أو ربما تفوَّقت عليها هذه الأخيرة تفوُّقا لافتا للنظر يحمل أكثر من دلالة، ومن دلالته  أننا مقبلون في التشريعيات المقبلة على خارطة سياسية جديدة ستسمح بصعود أحزاب صغيرة وتحولها إلى أغلبية برلمانية، ومن دلالته أيضا أن الأحزاب الكبيرة قد فقدت كثيرا من مظاهر الدعم التقليدي وغير التقليدي الذي كان يتيح لها في كل مرة حصد أكثر الأصوات، فهذه الأحزاب تحتاج في الانتخابات التشريعية والمحلية إلى ما يشبه المعجزة لكي تحافظ على تقدمها وتفوقها، ومن دلالته أن عهد الأٌقوى دائما ومطلقا قد ولى، وأن الأغلبية في البرلمان القادم ستتشكل من أحزاب الدرجة الثانية والثالثة وفق التصنيف السياسي السابق، وهو ما يعني أفول نجم الأحزاب الكبيرة واختفاءها في مرحلة وشيكة عن المشهد السياسي.

إن المؤشّرات السياسية الحالية توحي بأن ما كانت تسمى الأحزاب الكبيرة ستجد صعوبة كبيرة في إقناع الناخب الجزائري؛ فدائرة الرفض الشعبي لهذه الأحزاب قد ازدادت، بل كل المؤشرات توحي بأنها لن تكون مستقبلا القوة الأولى ولا الثانية ولا الثالثة.

“أحزاب السلطة”، “الحزب الحاكم”، “أحزاب الموالاة” تسمياتٌ طغت على المشهد السياسي في الجزائر لأكثر من عقدين، أحزابٌ فرضت منطقها وأملت سياستها إلى درجة أنها جعلت الأحزاب الأخرى لا تفكر في منافستها أو اقتسام السلطة معها بل ترضى بما دون ذلك، بمقاعد معدودة في البرلمان والمجالس المحلية.

من سيئات النظام السياسي السابق تقسيم الأحزاب إلى أحزاب كبيرة وأحزاب صغيرة، وهذا التقسيم مخالِف للعرف الديمقراطي، فليس هناك في العرف الديمقراطي أحزاب كبيرة وأحزاب صغيرة، بل هناك برامج كبيرة وبرامج صغيرة، وليس هناك في العرف الديمقراطي أحزاب سلطة، بل هناك أحزابٌ متنافسة على السلطة بما تقتضيه أدبيات وأخلاقيات المنافسة السياسية. إن السلطة في العرف الديمقراطي ليس ملكا للحزب الفلاني أو العلاني بل هي ملكٌ للشعب الذي هو مصدر كل سلطة، وليس هناك في العرف الديمقراطي حزب حاكم وحزب محكوم، فعقيدة الحزب الحاكم ترتبط في الغالب بالأنظمة الشمولية التي يتنافس فيها الحزب الحاكم مع نفسه ويخلف فيها نفسه في انتخابات صورية نتيجتها محسومة مهما كثر المتنافسون، وليس هناك في العرف الديمقراطي أحزاب موالاة، فالولاء لا يكون لأحد حزبا كان أم فردا بل يكون للدين وللوطن.

أمقت الذين يشيطنون الأحزاب “العتيدة” أو يرمونها بالفساد عن بكرة أبيها وكأنها شيطانٌ مارد ليس فيها رجلٌ رشيد، ففي هذه الأحزاب رجال وطنيون مخلصون لا يجوز التنكر لنضالهم الوطني بدعوى أنهم ينتمون إلى هذا الحزب أو ذاك، ومن هؤلاء الرجال الوطنيين والمخلصين عبد الحميد مهري رحمه الذي عُرف بدفاعه المستميت عن المرجعية الدينية والثوابت الوطنية، فهو الرجل الحصيف المنصف الذي يفرّق بين حدود الولاء للدين والوطن وبين حدود الولاء للحزب، إذ يقول في هذا الشأن: “اليوم يحاربون عروبة الجزائر، بدعوى أن هناك أقليات لها خصوصيات غير عربية، وغدا سيحاربون الإسلام بحجة أن هناك أقليات نصرانية ويهودية، وبعدها يحاربون الأديان بحجة أن هناك ملحدين في الجزائر، وهكذا إلى أن تضيع كل ثوابتنا القومية والهوياتية التي أعلنها بيان أول نوفمبر المجيد”.

إن لسان عبد الحميد مهري رحمه الله وهو من قيادات الحزب العتيد في الدفاع عن الإسلام أشد على خصوم الإسلام من خطابات كثير من السياسيين الإسلاميين، وأشد على الانفصاليين والاستئصاليين من خطابات كثير من السياسيين الذين يرفعون الشعارات الوطنية ولا يرتقون بسلوكاتهم السياسية إلى مستوى الوطنية، فالوطنية تضحية وليست مُكاءً وتصدية.

إن الجزائر الجديدة ينبغي أن لا تبقى شعارا نرفعه ونتغنى به بل يجب أن تتحول إلى واقع معيش يتجسد أول ما يتجسد في الساحة السياسية، فينبغي أن لا تبقى هذه الساحة حكرا على الأحزاب الكبيرة صاحبة النفوذ بلا حدود وغيرها خدم وحشم لها، إن الجزائر الجديدة تحتاج إلى عقيدة سياسية جديدة تتكافأ فيها الفرص ويستوي فيها الجميع وتتحقق فيها المنافسة السياسية النظيفة التي تجعل حزبا ما  كبيرا ببرنامجه السياسي وليس بالدعم اللامحدود وبالعطاء غير المجذوذ الذي يتلقاه من صناع القرار.

إن الديمقراطية الجزائرية لا تصنعها الأحزاب الكبيرة التي استأثرت بكل شيء، بل تصنعها كل الفئات المحتمعية والكفاءات الجامعية التي همشت لعقود ولا نريد لهذا التهميش أن يستمر، ففي القانون العضوي الأخير للانتخابات الذي صدر بالجريدة الرسمية في 16 مارس 2021 كثير من المواد التي من شأنها أخلقة الحياة السياسية، فقد قطع هذا القانون الطريق أمام المتسللين والمتسلقين الذين يتخذون من المال الفاسد وسيلة للوصول إلى قبة البرلمان وما بعدها مما لا يخطر على بال، وقد سوَّى هذا القانون بين الأحزاب وأعطى هامشا كبيرا للمعارضة لإسماع صوتها وعرض برامجها وبدائلها، ولكن لأن النصوص وحدها لا تقي من اللصوص، فإنه يتوجب علينا جميعا الحرص على تطبيق هذا القانون بحذافيره، فإن لم نفعل فلا قيمة لما نقول “يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون”.

مقالات ذات صلة