-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الأستاذ يوسف عتيق… يغادرنا!

الأستاذ يوسف عتيق… يغادرنا!

انتقل إلى رحمة الله الأستاذ يوسف عتيق عشية يوم الأحد 4 سبتمبر2022، وهو الذي تقاعد عام 2017 بعد أن اشتغل في البحث والتدريس الجامعي منذ 1971. فقد اشتد المرض الذي ألمّ به منذ تلك السنة، وصارت معاناته تتفاقم عبر الأيام والأشهر، وكان طيلة حياته من الصابرين الذين لا نسمع منهم شكوى إلا نادرا.

مشوار حافل بالمنجزات 

ولد المرحوم يوسف عنيق يوم 24 جوان 1947 بعين طابية، دائرة تمالوس (ولاية سكيكدة). وقد أنهى دراسته الثانوية عام 1968 وسجل بكلية العلوم في فرع يسمى “الرياضيات العامة والفيزياء” بجامعة الجزائر، وهو الفرع الذي يؤدي بصاحبه إلى الليسانس في الرياضيات. وفي عام 1971-1972 تحصل على دبلوم الدراسات المعمقة، ثم على دكتوراه الطور الثالث في الرياضيات التطبيقية عام 1978 من جامعة الجزائر في موضوع خاص بالأوساط المسامية ذي العلاقة بالمحروقات. ثم تفرغ خلال الفترة 1991-1993 للحصول على دكتوراه الدولة في الرياضيات المجردة من جامعة بواتييه الفرنسية.

وظل المرحوم يدرّس خلال الفترتين 1971-1991/ 1993-2017 دون انقطاع، أي ما مجمله 44 سنة في ممارسة مهنة التدريس. وقد عُرف في الجانب المهني وحياته العامة بصرامته التي لا تضاهى واستقامته مع الجميع (الزملاء والطلبة والإداريين) وبدقة مواعيده في كل الظروف. ولم يكتف المرحوم يوسف عتيق بأداء واجباته في باب التدريس، بل شمل نشاطه تسيير السنة الأولى بالمدرسة العليا للأساتذة القبة من 1977 إلى 1989، ثم إدارة قسم الرياضيات من 1985 إلى 1989. 

كما شغل منصب نائبا لمدير المدرسة المكلف بالدراسات العليا، وكان مسؤول ماجستير الرياضيات خلال الفترتين 1987-1998 و2011-2013، ورئيسا للمجلس العلمي للمدرسة خلال 1999-2000، ومديرا لمخبر المعادلات التفاضلية الجزئية وتاريخ الرياضيات خلال 2000-2003، ورئيس الجمعية الوطنية لتاريخ الرياضيات التي تأسست عام 1988، وكان مقرها بمدرسة القبة. ولا ننسى أن الفقيد كان أيضا عضوا مؤسسا للجمعية الجزائية للرياضيات عام 1988.

وليس هذا فحسب بل شغل كذلك منصب رئيس تحرير المجلة المغاربية للرياضيات خلال 10 سنوات (1994-2004). وقد عرفت هذه المجلة الفريدة نجاحا لم تعرفه إلا القليل من المجلات الأكاديمية. ومن المعلوم أنها كانت مجلة الرياضيات الوحيدة على مستوى المغرب العربي إبان تلك الحقبة. 

وخلال مشواره بمدرسة القبة، وبدءا من عام 1986 كان ينظم الملتقيات ذات العلاقة بتخصصه وبتاريخ الرياضيات العربية الإسلامية. كما حضر العديد منها في داخل البلاد وخارجها. أما في مجال التكوين في الدراسات العليا، فلم يتوقف عن تقديم المحاضرات لفائدة طلبة الماجستير والدكتوراه. وقد أشرف على مذكرات وأطروحات أزيد من 20 طالبا وطالبة في الدراسات العليا، هم الآن منتشرون عبر المؤسسات الجامعية في البلاد كما هو حال آلاف أساتذة التعليم الثانوي الذين أسهم الفقيد في تكوينهم منذ 1977. ولا يفوتنا أن نذكر، ونحن نستعرض حياة المرحوم ومنجزاته العلمية، أن الظروف المادية دفعته، كما دفعت العديد من أمثاله، إلى العمل في الخليج العربي مدة 5 سنوات. وهكذا ظل يدرّس خلال الفترة 2003-2008 بجامعة أبها السعودية فأبلى البلاء الحسن. وبالموازاة مع هذا النشاط نجد في قائمة منشوراته الأكاديمية في مجال الرياضيات البحتة والتطبيقية 15 بحثا صدرت في المجلات الأكاديمية العالمية خلال الفترة 1978-2022.

وما كان يميز الزميل يوسف عتيق من الناحية الوطنية هو نضاله المستميت منذ أجل تعريب تدريس العلوم بالجامعة. فمنذ افتتاح القسم المعرب عام 1971 في كلية العلوم بجامعة الجزائر انضم إليه مدرسا باللغة العربية وظل كذلك بالمدرسة العليا للأساتذة بالقبة دون انقطاع. وهذا رغم أن دراسته الجامعية قد تلقاها كلها باللغة الفرنسية مع اتقانه للغة الأنكليزية وإلمامه باللغة الروسية. وفي هذا السياق، نجده قد أسهم منذ 1984 بترجمة 5 كتب رياضياتية إلى العربية أصدرها ديوان المطبوعات الجامعية في تلك الفترة.

من ذكرياتي مع الفقيد

في عام 1976 عدت من جامعة نيس مع 3 زملاء، وكان المشرف علينا الأستاذ الفرنسي بيير غريزفار Pierre Grisvard (1940-1994) من اليساريين المتطرفين عكف على تكوين عدد كبير من الجزائريين من أجل خدمة بلدهم (ذلك كان مبدؤه). وبعد مناقشة الأطروحات قال لنا قولته الشهيرة “أنتم أصبحتم الآن عمليين، فعودوا إلى بلدكم”. وبعد التشاور قررنا الالتحاق جميعا بجامعة قسنطينة لتكوين “نواة” في اختصاصنا الضيق لتكون جهودنا أكثر فعالية. 

وفي سبتمبر 1976، التقيت أول مرة بالمرحوم يوسف عتيق في قسم الرياضيات بجامعة قسنطينة حيث كان يدرس … وكان العزم قائما على أن نكون في نفس النواة، مع أنه كان منضما إلى فريق من 6 جزائريين آخرين يحضرون رسائل الدكتوراه ويشرف عليه الأستاذ مارتن زرنير Martin Zerner (1932-2017) من جامعة نيس أيضا وهو رفيق بيير غريزفار. وكان فريق زرنير يعمل على موضوع الأوساط المسامية. 

كان المرحوم يوسف عتيق قد أدى خدمته الوطنية خلال الفترة 1972-1974 لأنه لم يغادر البلاد قبل ذلك التاريخ، أما وضعي الشخصي فيختلف إذ استفدت من منحة للخارج حتى عام 1976، وهو ما جعلني أؤجل الالتحاق بالجامعة وأداء الخدمة الوطنية خلال 1977-1979. وكان المرحوم عبد الحفيظ مصطفاي، مدير المدرسة العليا للأساتذة بالقبة، أستاذا للرياضيات بالجامعة منذ الاستقلال، وكانت المدرسة في أمسّ الحاجة إلى مكونين. ولهذا طلبني من وزارة الدفاع لأدّرس بالقبة خلال الخدمة الوطنية بدءا من سبتمبر 1977. وعند الالتحاق بها تفاجأت بوجود المرحوم يوسف عتيق بمدرسة القبة بعد أن غادر قسنطينة هو أيضا لأسباب أخرى! كما غادرت “النواة” قسنطينة والتحقت بالعاصمة بين جامعة باب الزوار ومدرسة القبة.

وهكذا صرنا زملاء بالقبة منذ ذلك التاريخ، نتعاون وننسق تنسيقا كاملا كل الأعمال الخاصة بالدراسة وقسم الرياضيات في المدرسة. فعلى سبيل المثال، كنا الاثنين مع المرحوم مصطفاي قد نظمنا بالمدرسة ندوة أسبوعية (سمنير) في الرياضيات منذ 1977. وكنا بادرنا مع الزميل عبد الحفيظ مقران على إعداد معجم فرنسي/عربي في الرياضيات منذ تلك الفترة، وكنا ثلاثتنا نلتقي خلال إعداده دائما في بيت المرحوم عتيق، وكان يبذل جهدا مضاعفا مقارنة بجهدنا حتى صدر المعجم لدى ديوان المطبوعات الجامعية وتكررت طبعاته. كما اشتركنا في ترجمة العديد من الكتب الرياضياتية.

وفي منتصف الثمانينيات، عندما كان المرحوم عتيق يترأس قسم الرياضيات بالقبة، انصب الجهد على إدخال فرع تاريخ الرياضيات العربية للمدرسة بالتعاون مع الأستاذ أحمد جبار المختص في هذا العلم. فتحقق ذلك وصارت المدرسة المؤسسة الجامعية الوحيدة على مستوى المغرب العربي التي تمنح فيها شهادة الماجستير، ثم الدكتوراه في تاريخ الرياضيات. وقد حرص الزميل عبد الحفيظ مقران حرصا كبيرا بالتعاون مع المرحوم على فتح ماجستير في ذلك الوقت في اختصاص التحليل الدالي والمعادلات التفاضلية الجزئية، ثم الدكتوراه. فكان التعاون مثمرا وممتدا عبر السنين. وظل هذا الاختصاص وكذا تاريخ الرياضيات مفتوحا (شهادة الماجستير وشهادة الدكتوراه) بالمدرسة حتى أزالت الوزارة شهادة الماجستير في نظام الشهادات بالجزائر وعوضته بالماستر. وتخرج من المدرسة بفضل هذه الجهود التي كان المرحوم دائما في مقدمتها مئات الطلبة.

كل تلك الأعمال التي قام بها المرحوم يوسف عتيق خلال نصف قرن في سبيل التعليم والتكوين الجاد ونشر الثقافة العلمية والثقافية تعدّ صدقة جارية وعلما ينتفع به. رحم الله الفقيد وأسكنه فسيح جنانه.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!