-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الأفكار الحية والأفكار الميتة

الأفكار الحية والأفكار الميتة

الأفكار هي محصول التفكير الذي يمارسه العقل البشري، التي يتوصل إليها من خلال التأمل والتدبر وتقليب النظر. والأفكار هي من تصنع سعادة وهناء الإنسان، أو تقذف به في بحر فائر من الشقاء والعناء. فبفضلها، ومتى كانت صالحة، يمكن للفرد أن يحافظ على توازنه النفسي والاجتماعي مع مجتمعه، ويحقق الانسجام والوئام، ويقضي على التناقض، ويجعل عيشه هادئا وخاليا من الاهتزازات العنيفة والاضطرابات المفجعة. وفي هذا السياق، يقول أحد الكتاب: (أنت الذي تلوّن حياتك بمنظارك الخاص، فإذا استجلبت فكرا خبيثا أسود، فلا بد أن يشقيك هذا الفكر، ويجعلك تعيسا بائسا، وإن استجلبت فكرا صالحا نيرا، فسيحولك إلى إنسان سعيد وديع…).

من جانب آخر، فالأفكار هي حجر الأساس في بناء المعارف العلمية المتوصل إليها في مختلف مجالات العلوم. فكل ما نعرفه من منجزات التكنولوجيا التي افتن العلم في صناعتها لخدمة الإنسان وإسعاده وإرضاء رغباته، على سبيل المثال، هي ثمرة أفكار نظرية سابقة في الوجود ومتقدمة في الحضور.

عندما يقسم العالم إلى عالمين: عالم أول متقدم ومتحضر وعالم ثان متأخر أو بدائي؛ فإن معيار التقسيم الخفي هو نوع الأفكار السائدة في هذا العالم ونظيرتها المنتشرة في العالم الآخر. فالأفكار النامية والناضجة هي من تحرك عجلة التقدم والارتقاء، وتدفع إلى التطوير والتغيير نحو الأفضل والأجود. وأما الأفكار البليدة والعليلة فلا تزرع سوى بذور الركود والخمول والقهر النفسي القاتل. وتتخلف عنها سلبيات أشبه ما تكون بالأمراض المستعصية التي تمتص القدرة على الحركة النشطة، وتمنع الاستطاعة على الفعل النوعي الذي يرفع من قيمة الإنسان، ويكسبه الراحة والاحترام.

تختلف الأفكار من حيث قوتها، وتتباين في تأثيراتها. ولا تأتي الفكرة الفعالة إلا من طول مراكمة الخبرات في معترك الحياة، وتكرار النظرات الدقيقة الكاشفة. وتلعب المدرسة دورا رياديا في إظهار التمايز بين الأفكار في المجتمعات. فمخرجات المدرسة الغارقة في التلقين والحشو المجهضين للتفكير الحسن لا يمكنها أن تنافس مخرجات المدرسة التي تعتمد على التفكير النقدي الخلاّق. فالأولى تفتقد إلى الخيال الابتكاري المبدع، في حين أن الثانية تنتج عقولا لا تعجز عن إنتاج أفكار راقية ومستحسنة.

في كتابه المتين: “مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي” الذي ألفه المفكر الكبير مالك بن نبي، وهو كتاب قيم أودعه خلاصة تجربته الحياتية بدليل أنه كتبه في آخر أيام عمره، يورد فصلا يتحدث فيه عن عالم الأفكار. وهو عالم مجرد يشبه بقية العوالم الأخرى الملموسة بكل ما تحتويه من رديء وصالح، وسرابي وحقيقي، ونافع وضار…

يُعرف الإنسان أنه يخفي في نفسه قوة شديدة للصد والامتناع عن غمس دلوه في النهر الذي تجرف مياهه كل ما هو جديد. ولا يتفاعل مع الفكرة الوافدة المستحدثة التي تدور في محيطه إلا بصعوبة ومرارة. ولا يتبناها ويفضلها عن فكرته القديمة المتوارثة تقليديا إلا إذا وجد فيها ما يغريه ويتوافق مع ذوقه العقلي، لأن أذواق الأفكار لا تختبر باللسان كالطعام. ومن بعد ذلك، ينحرف منجذبا إليها انجذاب النحلة إلى الزهرة الزاهية المتفتحة، فيأخذ منها بقدر حاجته ورغبته، ويحاول أن يدفع الآخرين إلى الحذو حذوه في الاقتباس منها في اشتهاء وانتشاء. وشيوع الأفكار المستحدثة في المجتمعات كثيرا ما يجري عن طريق العدوى النفسية، وإلا قوبلت بالعداء والخصومة، وتركت كاسدة كالسلع الراكدة في الرفوف، وهجرت هجرانا فظيعا وضيعا.

عذوبة صياغة الفكرة هي وحدها من تحقق لها الرواج. ولذا تبني الإعلانات والإشهارات وأسماء المحلات والمنتجات الصناعية والسلع أسماءها في السوق التنافسية على أفكار ترتكز على جمالية الذوق وحلاوته واستساغته وقبوله. وقد كان للعرب قديما حيل ذكية في هذا الباب. ومن ذلك ما رواه الأصفهاني في كتابه الشهير: “الأغاني”، وهو أن تاجرا قليل الذكاء قدم من الكوفة بأرض العراق إلى المدينة المنورة وفي خبيئته خمارات (جمع خمار) يريد بيعها. فباع كل الخمارات ذات الألوان المختلفة، وبقيت السود منها، فلم تجد من يقبل عليها من النساء، وكسدت بين يديه، ولم يهتد إلى حل يريحه. وكان لهذا التاجر صديق شاعر مكي الأصل يقيم في المدينة المنورة، واشتهر في مراحل من حياته بقرض شعر الغزل. ثم انقطع عن قول الشعر، واعتزله، وتنسك وأقلع عن الغناء. فذهب إليه وشكاه بقلب موجوع ولسان متألم لما حصل معه. فرد عليه، لا تقلق، سأبيعها لك، ثم قام وأنشد الأبيات التالية:

قل للمليحة في الخمار الأســود

ماذا فعلت بناسك متــــــــــــعبد

قد كان شمّر للصلاة ثيـــــــــابه

حتى وقفت له بباب المســـــجد

ردي عليه صيامه وصـــــــلاته

لا تفتنيه بحق دین مــــــــــحمد

انتشرت هذه الأبيات الرائعة بسرعة بين الناس، والتقطتها الآذان، ورددتها الحناجر، وأقبلت النسوة الحسناوات يتدافعن بين يدي التاجر لشراء الخمارات السود. وتمكن التاجر الكوفي من بيع سلعته المتبقية في وقت قصير. ومن بعد ذلك، جمع أغراضه ومضى في سبيله فرحا مزهوا. وعاد الشاعر إلى خلوته للتعبد.

كان عجز التاجر الكوفي بائع الخمارات بالغا في توليد فكرة تساعده على الدعاية لسلعته، ولكن فكرة صديقه الشاعر أنقذته، وحوّلت النفور منها إلى إقبال عليها. ووفّق هذا الأخير في طلاء فكرته بكل المعاني التحسينية التي تناسبها. وكانت كلماته الرقيقة مصيدة هزت قلوب نساء المدينة وأوقعت ببعضهن. فالأبيات الشعرية لم تغير من لون الخمارات، ولكنها بدلت من نظرة النساء إلى اللون الأسود حتى أمسى المتروك المهجور مرغوبا فيه. ويعود الفضل في كل ذلك إلى فكرة الحية التي جمعها الشاعر في كلامه.

لا يرم الفاشل في عالم الأفكار سوى بأفكار خائبة ومعتلة، وخالية من كل تأثير ومجردة من نور الاستقطاب المبهج، وهي ما أسميها بـ: “الأفكار الميتة”. ومما يحكيه الإخوة في الشام العريق، أن بقرة التصق رأسها بسطل معدني كبير بعد أن خرقه قرناها. ولما عجز أهل الضيعة عن الوصول إلى فكرة لتخليص البقرة مما هي فيه من حرج جعل سلوكها عدوانيا، ذهبوا لإحضار مختار البلدة؛ لأنه صاحب رأي ومشورة. ولما حضر المختار، نظر إلى البقرة، ثم قال: المسألة في غاية البساطة، وعليكم بقطع رأس البقرة، أولا. ولما كان المختار مهابا وكلامه محترما، أقدم القوم على تنفيذ رأيه، فذبحوا البقرة، وقطعوا رأسها، ثم عادوا إليه يستشيرونه ثانية. فأشار عليهم بتمزيق السطل، وتحرير رأس البقرة. ولما أنهوا العملية، لجأ المختار إلى حائط قريب، وأسند له ظهره، ثم سحب علبة سجائره، وأوقد واحدة منها. ولما استوى في جلسته، وضع خده على كفه، وتظاهر بالغرق في تفكير عميق؟ تقدم إليه كبار الضيعة، وسألوه: فيمَ تفكر، يا مختارنا العزيز؟ فأجابهم مبديا حنقه وانزعاجه تكلفا: أفكر في المصير الذي ستؤولون إليه لو يقدر علي أن أترككم؟ تعرت فكرة المختار من نتف الرأي الصائب، وحملت في طياتها عوامل خوائها ومسببات اختفائها، لأن تطبيقها كان مكلفا، وخسارة العمل بها باهظة.

قبل أيام قليلة، كنت أتحدث هاتفيا إلى الأستاذ المربي عيسى بوسام، وهو الرجل الأديب الأريب، وصاحب الفكر الثري الخصيب. وفي لحظة، وجدت أستاذنا يستنجد، وهو القدير والمتمكن من استعمال اللغة العربية الفصيحة وترويضها نثرا وشعرا، وجدته يستنجد بقاموس العوام الدارج، ويلتقط منه عبارة لوصف جانب من أوضاعنا الحالية، ورسم ملمح لصورتها الحزينة، واستعمل لفظة: “التكركير”، أي السحل على وجه الأرض.

لقد وجد الأستاذ عيسى بوسام في لفظة: “التكركير” ما يغني عن استحضار ألف عبارة مختارة ورشيقة من قواميس الفصحى. ورغم أنها لفظة غير مستحبة لما نستحضر اعتبارات أخرى، إلا أنها غنية تعبيريا من حيث الدلالة والمقصد ونافعة من ناحية الاقتصاد اللفظي. ومن جانبي، لا أرى في كلمة: “التكركير” مجرد لفظة مهربة أو مهجرة، وإنما هي كلمة تخفي فكرة غائرة العمق، وذات مرمى بعيد. وإن كان لكل فكرة مذاق، فإن لهذه الكلمة التي اختصرت فكرة كاملة طعما شهيا لا يتحسسه إلا من تعرفوا إلى الأستاذ عيسى بوسام، وخبروا فلسفته في الحياة، ووقفوا على سرعة انزلاق اللغة العربية الفصيحة على لسانه وتدفقها من فيه بلا تأتأة أو توقف أو اعوجاج أو ركاكة. ولقد قطفت فكرة: “التكركير” مقطوفات من معاني الحياة التي عاش صاحبها بها ولها، ولم تكن مجرد زفرة قلب مهموم؟

إذن، فلكل فكرة حظ وبصمة من فكر وشخصية مبتكرها. ومن يقبل العيش في ظل فكرة مريضة وحالكة السواد ورديئة ومنزوعة الطعم، فلن يعاشر إلا التعاسة والبؤس والشقاء. ومن يخالط الأفكار الناصعة والنيرة والصالحة يعيش سعيدا ومطمئن النفس، ولن يغذي فكره وقلبه بأنساغ السخط وعصارات التذمر وسوائل أقداح الحزن.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!