-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الأمراض النفسية والاجتماعية وآثارهما على الأمن والاستقرار والتنمية

خير الدين هني
  • 519
  • 0
الأمراض النفسية والاجتماعية وآثارهما على الأمن والاستقرار والتنمية

يتفق علماء الاجتماع على أن المجموعات البشرية، هي تكوينٌ اجتماعي مركَّب تركيبا معقدا من العلاقات البنيوية، وهي العلاقات التي كوّنتها التعاليم الدينية والأفكار الثقافية والقيم الأخلاقية، في كينونة إنسانية بالغة التركيب والتعقيد، استلزمتها الطبيعة التكوينية لجُنومِية الإنسان، ضمن الخصائص العقلية والنفسية والوجدانية، وهي البنية الجونومية التي جعلته يتفرّد بها عن سائر الأنواع والمخلوقات في هذه المعمورة..

والمجتمع الإنساني وفق ما تقتضيه الغايات السامية من وجوده،  ضمن الطبيعة التركيبية لكيانه، مُلزَم بالتقيد بما يحقّق له مقاصد الغايات السامية، ولا يترك نفسه عرضة للزيغ والهوى والغرائز الشريرة التي تنزع به نحو إشباع نهمه من ميول النفس ورغباتها الجامحة، ويجعل هواه تبعا لأنانيته المفرطة في الوصول إلى كل ذَواقٍ تتوق إليه نوازعه، من غير نظر إلى القيم السامية التي خُلق من أجل بلوغ مراتبها العليا، وهي القيم التي -إن تملّكها- خلّصته من عذاب الشهوة والأنانية والإفراط في طلبهما.

الطبيعة الإنسانية خُلقت مهيّأة، للتكيّف مع منظومات القيم في علاقاتها المتضادة، لقوله تعالى: “وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ”، وقوله جلّ ذكره: “إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا”، أي: إن الإنسان خُلق وفي جيناته تركيب القابليّة لفعل الخير والشر بالخيار، أو القابلية للإيمان أو الكفر من غير إجبار على الاختيار، والآلية العقلية المتخلّقة في مراكز الضمير، هي من تخلق الضابط النفسي (régulateur) كي يوازن الإنسان بين الخير والشر وبين الحق والباطل وبين الفضيلة والرذيلة وبين الصواب والخطأ، وبهذا الضابط يستطيع أن يوازن بين الأضداد والأمثال، ويصبح قادرا على الإدراك المتبصّر، والتمييز بين الفعل المحمود والفعل المقبوح وبين الصفات الجميلة والصفات الذميمة.

والمؤثرات الخارجة عن الذات الإنسانية، هي من ينمي الصبغيات الوراثية ويعدّلها نحو الأحسن أو الأسوأ، وهي من يصقل الضابط النفسي ويوجهه الوجهة الصحيحة، مثل التربية والتوجيه والتثقيف وعادات المجتمع وأعرافه وقيمه الأخلاقية والأدبية والسياسية والاجتماعية، وهذه المؤثرات هي من يغلّب جانبا على جانب، فإن كانت قيّم الحق والعدل والخير والفضيلة هي الغالبة في تطبيقات المجتمع، نشأت الأجيال على حب الخير والفضائل والأخلاق الحميدة، وترسّخت قيمُها في وعيه الفكري والوجداني والنفسي، وتجسّدت في ممارساته وسلوكياته، أما إن كانت قيم الشر والرذيلة، هي الطاغية على حياة المجتمع في التطبيقات العملية والسلوكية، فإن الأجيال تنشأ منفصلة عن الواقع المثالي، وتتحوّل إلى كيانات آدمية مريضة نفسيا واجتماعيا، وتختلّ لديها معايير التفكير والوجدان والقياس والأخلاق والحكم على الأشياء، وتصبح منزوعة المشاعر والإحساسات الجميلة، وفاقدة لوجاهة التقييم والتمييز والتصنيف، وينتج عن ذلك الاختلالِ النفسي معاناةٌ وجدانية وإحباط نفسي شديد الانتكاسة، مما يكابده هذا الإنسان من اضطرابات انفصام الشخصية، وكذلك من تزايد ارتفاع درجات القلق والتوتر التي تتحول -مع مرور الزمن- إلى أمراض نفسية مزمنة ميئوس من شفائها.

ومن هذا الواقع المريض الذي إذا فُرض على إنسان ما، بفعل الموجِب الأخلاقي المختلّ، تُخلق أمراضه النفسية والاجتماعية، ولا تفيد في إصلاح حاله أي حركة إصلاحية بغية تغيير واقعه البائس، إذا كانت الواقعية المختلّة هي المسيطرة على  الضمير الفردي والجمعي، ضمن سيرورة  غير منسجمة مع المفاصل الحسّاسة في دواليب الحياة الاجتماعية في أطرها الأخلاقية والسلوكية، وهذه الواقعية المختلّة هي من يقف عائقا أمام تطور أي حركة إصلاح جادة، تستهدف التقويم الوطني والتحديث السياسي، وفق مشاريع الأمة وتوجُّهاتها وأهدافها الأخلاقية والقيمية.

وقد يزداد الأمر سوءا، حينما تمتزج الأمراض النفسية والاجتماعية للمجتمعات المريضة بالعوامل الخارجية المهيمنة، وتوجيهها نحو خدمة الأهداف التهديمية التي لا تريد الخير إلا للذات الخارجية المستعلية، وهي الذات التي تسعى بكل جهد إلى نزع عوامل النهوض من المجتمعات المريضة، مثلما هو واقعٌ مع مجتمعنا العربي والإسلامي المضنون عليهما بأدنى شروط النهوض، مع التشجيع على تحويل فوائض المال العامّ والخاص إلى وجهات خارجية لا تخدم التنمية المحلية، وهذه الذات الخارجية المعطِّلة لكل نهوض تنموي، تتقاطع مصالحها مع أنانية الذات الداخلية المسيطِرة على المفاصل الحيوية للمجتمعات المريضة.

وقد برز هذا الاتجاه -بشكل أوضح- بعد سقوط الأيديولوجيات القومية وهيمنة العولمة الثقافية والاقتصادية على العالم، ولاسيما على المجتمعات التي تعاني من الأمراض النفسية والاجتماعية، والشك في القدرات الذاتية والشعور بالضّعة والدونية، وتبلور ذلك بشكل جليّ بعد انهيار الدولة الوطنية، التي كانت تعتاش من أفكار الأيديولوجيا المصطنعة، وهي الأيديولوجيا التي لم تصمد  طويلا أمام الأفكار الحداثية الجامحة.

الإنسانُ المريض اجتماعيا، لا يجد مندوحة في انزلاق لسانه بفحش القول ورديء الخصال، ويتحوّل إلى إنسان فظّ غليظ، سيء الخُلق والعِشرة، ويجد في نفسه ميلا إلى العزلة والانطواء والنفور من المجتمع، ويصبح سريع الانفعال والغضب والتفحّش والسباب والانتقاد اللاذع من غير تحرُّج، لأنه لا يرى في الحياة إلا السَّواد، ويصير بهذا الطبع الفظ منزوع المشاعر الرقيقة المفعمة باللطف والرأفة والرحمة، وهو هكذا ميّالٌ إلى القسوة والعنف والتشغّب على الدولة والمجتمع بقبيح الأقوال.

وتحالفُ الذات الداخلية المسيطرة مع الذات الخارجية المهيمنة، هو ما زاد من تفاقم الأمراض الاجتماعية لدى الشعوب المنهَكة، مما أفقد الجميع  الشعور بالذات الفاعلة، وهي الذات التي إن فقدت كينونتها نقلت مراكز الإحساس من دوائر الشعور بالكينونة إلى دوائر عدم الإحساس بفاعلية الضمير، وحينها لا يطيب لهذا الإنسان المريض نفسيا واجتماعيا، إلا رُخاء اللذة والمتعة بالجلوس على عروش المجد، ولو كان ذلك على حساب الحق والعدل والفضيلة.

وتصبح كل قيمة وطنية أو أخلاقية تتعارض مع هذا النزوع، تشكِّل قيما رجعية لا تتساوق مع مستلزمات التغيير المصلحي، لأن هذه القيم تفتقر إلى الفاعلية في الوصول إلى المراد مما هو مستتر في الضمير النفعي، وهذا التحالف المريب مع الذات الخارجية المهيمنة، التي أضرَّت بالمصالح الحيوية، هي ما خلق للإنسان المضنون عليه، أمراضَه النفسية والأخلاقية والاجتماعية والسلوكية، وراكم همومه وأحزانه وأتراحه وتعاسته، وضاعف هواجسه وكوابيسه وأزماته المختلفة.

وحين يفقد الإنسان المريض اجتماعيا الأمل في تغيير واقعه، يصير يشعر بالصَّغار والهوان والإحباط، ويصاب باليأس والقنوط وفقدان الأمل في أي بارقة خير أو إشعاع نور، يبزغ عليه -بغتة- من أفق بعيد، يصلح حاله وباله وأوضاعه البائسة، ويبعث فيه الحركة والنشاط والحيوية، أو ينتظر وثبة واثب جديدة، تعيد له الأمل في التطلّع إلى حياة سعيدة رغيدة، تملأ عليه الدنيا سرورا وحبورا، ولكن ما أسرع -وحال الإنسان المريض اجتماعيا وأخلاقيا هكذا- وقد استبدّ به اليأس والقنوط وفقدان الأمل أن يخلق لنفسه تعويضا ينفّس به كربه ويخفّف به وطأة رزْء مصائبه، وليس له سوى ذلك حينما يضيق به الأفق، كما يقول علماء النفس، إلا أن تنزع به نفسه إلى التذمّر والتبرّم والتمرّد والسخط على واقعه البائس، وتثور في دواخله غرائز الشر والعدوان والكراهية، لكل ما هو من جنسه وملته ونِحلته.

تبذّؤ الإنسان المريض اجتماعيا

والإنسانُ المريض اجتماعيا، لا يجد مندوحة في انزلاق لسانه بفحش القول وبذيء الكلام ورديء الخصال، وما أسرع أن يتحوّل إلى إنسان فظّ غليظ الطبع، سيء الخُلق والعِشرة، ويجد في نفسه ميلا إلى العزلة والانطواء والنفور من الاندماج في المجتمع، ويصبح سريع الانفعال والغضب والتفحّش والسباب والانتقاد اللاذع من غير تحرُّج، لأنه لا يرى في الحياة إلا السَّواد، لكونه فقد الإحساس برؤية الألوان الجميلة ليأسه وقنوطه، ويصير بهذا الطبع الفظ منزوع المشاعر الرقيقة المفعمة باللطف والرأفة والرحمة، وهو هكذا ميّالٌ إلى القسوة والعنف والتشغّب على الدولة والمجتمع بقبيح الأقوال، من غير توقير لقانون ولا احترام لكبير أو صغير أو مقدَّس من الآداب، ونراه كثير الجنوح إلى الإرجاف والقلاقل ونشر الفوضى، وتنعدم لديه الرغبة الإيجابية ويصبح مستكينا إلى الكسل، والخمول والتبلّد وانعدام الفاعلية في النشاط والعمل والاجتهاد والابتكار، لأن الواقع البائس أخلّ بتوازنه الفكري والنفسي والسلوكي، فأفقده بوصلة التوجيه نحو أساليب التفكير المفيدة، وطرق الرشد والاستقامة والشعور بيقظة الضمير.

تأثير الأنساق الاجتماعية في بعضها

وهذا الكمّ الهائل من الأمراض الاجتماعية والأخلاقية، هي ما يميّز حياة المجتمعات المريضة بخاصة، ولوازم هذه الأمراض مرتبط  بجدلية مفهومية متعلقة بالصحة النفسية لهذا الإنسان الفرد، وارتباطها الوثيق بالصحة النفسية العامة للمجتمع الذي يعيش في كينونته العلائقية، ضمن الأنساق المختلفة التي تحيط بمكوناته الوجودية، والتداخل الوثيق بين منظومات هذه الأنساق، هو ما يخلق درجة التأثير والتأثّر بالأنماط الثقافية والعُرفية التي خلقت الوسط البيئي لهذا الإنسان المريض، وكل ذلك كان نتيجة تأثير المنظومات القيمية للبنية العامة للمجتمعات المريضة، وعلاقتها الوطيدة بالأنساق السياسية ذات التأثير الكبير على كل الأنساق التي تحكم الحياة الإنسانية بوجه عامّ.

والأنساق السياسية في جوهرها العامّ، وهي من يشكّل رأس الحربة في أي بناء قيمي أو حضاري، هي من يصنع قيم المجتمع السليم أو المريض، وهي القيم التي تقوم على الحق والعدل والمساواة والنقد البنّاء وحرية اختيار المتأهلين ومرجعيات الحكم، والرشادة في التقويم الوطني تنضوي تحتها كل الاعتبارات والنظم والقوانين والقيم المثالية، وهذه الرشادة هي من يخلّص المواطن المريض من كوابيسه وأمراضه النفسية والاجتماعية والقيمية، ويعيد له رشده وصوابه وحكمته وتبصّره ومشاعره الرقيقة نحو وطنه وأمته ودولته، وحبّه للخير والفضيلة والحياة العامرة بالعطاء والخير، وهي من تخلّصه من بؤسه وشقائه وتشاؤمه وتعيد له إدراكه ووعيه بالمشكلات، وتجعله يلتحم مع ذاته وغيره من أبناء وطنه وجنسه، ضمن عالم مرتبط بالمُثل العليا التي تحثّه على إعادة صياغة حياة جديدة، تقوم على الفأل الحسن والطموح والتطلّع نحو المستقبل الزاهر، وتبعث فيه حب البحث والتنقيب والإبداع والبناء والتعمير والتشييد، على نحو ما تفعله المجتمعاتُ الحيوية التي تخلّصت من آلام أمراضها، وليس ذلك بعزيز إن تضافرت الجهود الصادقة عبر الأنساق المختلفة التي تربط البنية الاجتماعية في كينونتها العامّة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!