الرأي

الإرهاب الديني: بين اليهودية والمسيحية والإسلام

إن سفك الدماء البريئة، وترويع الآمنين، وإحداث الفساد في الأرض باسم الله أسلوب قديم من أساليب الإرهاب، ولا تزال ناره ملتهبة إلى يوم الناس هذا، بل لعل ألسنتها قد امتدت إلى آفاق يصعب لجمها.

وقد كان لليهودية والمسيحية صفحات مضرجة بدماء المخالفين في المعتقد تحت راية الحرب المقدسة باسم الدين، أو لنقل على الأرجح تحت راية الإرهاب الديني المجنون وإن كان على حساب وحي الله لرسله، بل وبتحريف كلام الله عن مواضعه، والتلاعب بالكتب المنزلة. 

ففكرة الحروب عند اليهود فكرة أساسية تعبر عن علاقاتهم بغيرهم من الأمم وهم يعتقدون أنهم أرقى الشعوب، وأن هذه منحة ربانية أعطاهم الرب إياها، تقول توراتهم المحرفة: (أنتم أولاد الرب إلهكم، لأنكم شعب مقدس، وقد اختارك الرب لكي تكون له شعبا خاصا فوق جميع الشعوب على جميع الأرض).

ومن ثم، فإن حروبهم التدميرية لم يحظرها دينهم الذي حرفوه، بل أباحها ومجدها، ولم يضع القيود عليها، فإذا حاربوا استباحوا أعداءهم فقتلوا الرجال، واستعبدوا النساء والأطفال، وأحرقوا البيوت. 

يقول ميموند، وهو أحد حاخامات اليهود الكبار: “الشفقة ممنوعة بالنسبة إلى غير اليهودي، وإذا رأيته واقعا في نهر، أو مهددا بخطر، فيحرم عليك أيها اليهودي أن تنقذه، لأن السكان الذين كانوا في أرض كنعان، وقضت التوراة بقتلهم جميعا، لم يقتلوا عن آخرهم، بل هرب بعضهم واختلط بباقي أمم الأرض، ولذلك يلزم قتل غير اليهودي، لاحتمال أن يكون هؤلاء من هؤلاء). 

وعلى أساس هذه المعتقدات السوداء، قامت الصهيونية حديثا، ولا عجب بعدئذ أن يرى العالم الإرهاب الأعمى الذي تقوم به أكبر دولة إرهابية في العالم وهي إسرائيل في حق الفلسطينيين العزل من قتل وتهجير ومذابح جماعية، وطمس متعمد للهوية العربية الإسلامية تحت عين العالم الديمقراطي الحر الذي يزعم- كذبا وزورا- محاربة الإرهاب، ويبكي على السلام المستباح، وحقوق الإنسان المنتهكة.

ومنذ مدة ليست بالطويلة ذهب إلى أمه الهاوية واحد من أكبر سدنة الإرهاب العالمي، وهو السفاح شارون، وإذا بالدول الغربية كلها تسارع إلى البكاء على موت مجرمها، وتبعث برقيات التعزية إلى دولة إسرائيل في بطلها العظيم الذي نهل وعب من دماء الأبرياء.

وبالجملة، فإن المذابح التي تقوم بها الدولة العبرية باسم التوراة المقدسة وأرض الميعاد المزعومة أكبر من أن يحيط بها وصف، أو يحويها عد.

وأما الإرهاب المسيحي الأعمى باسم عيسى والإنجيل المبدل، فهو شقيقه وصنوه، بل قد فاقه في أحايين كثيرة. 

فإن انتشار المسيحية ذاتها بدأ باضطهادات ومجازر انطلقت منذ القرن الرابع للميلاد، واستمرت حتى نهاية القرون الوسطى، ويكفي أن أذكر ما قام به حلفاء قسطنطين الأول من اضطهادات لإرغام غير المسيحيين على اعتناق المسيحية، وماقام به شارلمان في القرن الثامن من فرض المسيحية على السكسون والبافاريين بحد السيف، حتى إنه قتل منهم في مذبحة (فردن) الشهيرة أكثر من أربعة آلاف فرد جملة واحدة.

وإن من أشد صفحات التاريخ قساوة ما ارتكبته المسيحية المتعصبة من إرهاب في حق مسلمي الأندلس من اضطهاد ديني أعمى، وتقتيل وتهجير، وإجبار على ترك المعتقد بأمر من الملك فرديناند وزوجته الملكة إيزابيلا وبمباشرة من الكاردينال خمنيس ذلك الحبر المسيحي الذي أعماه التعصب فكان من أشد الوحوش البشرية ظمأ إلى الدماء.

لقد تمركزت حركة التنصير في غرناطة بالأخص في حي البيازين حيث حول مسجده في الحال إلى كنيسة سميت باسم (سان سلفادور) واحتج بعض أكابر المسلمين على هذه الأعمال، ولكن ذهب احتجاجهم، وتمسكهم بالعهود المقطوعة سدى.

ولم يقف الكاردينال خمنيس عند تنظيم هذه الحركة الإرهابية التي انتهت بفرض التنصير على عشرات الألوف من المسلمين، ولكنه قرنها بارتكاب عمل بربري شائن، وهو أنه أمر بجمع كل ما يستطاع جمعه من الكتب العربية من أهالي غرناطة وأرباضها، فجعلت أكداسا هائلة في ميدان باب الرملة أعظم ساحات المدينة، ومنها كثير من المصاحف البديعة الزخرف وآلاف من كتب الآداب والعلوم وأضرمت النيران فيها جميعا، ولم يستثن منها سوى ثلاثمائة من كتب الطب والعلوم، فذهبت ضحية هذا العمل الإجرامي عشرات الألوف من الكتب العربية، وهي خلاصة ما بقي من تراث الفكر الإسلامي في الأندلس. 

وبعد سقوط غرناطة بسبع سنوات كلفت ملكة إسبانيا أحد كهانها بتغيير دين المسلمين الذين كانوا في المدن والقرى، فسارع إلى تلبية الأمر الملكي، ولكنه لاحظ أن الصلة ما بين المسلمين المنصرين قسرا وبين القرآن وكتب العلوم الأخرى، فأمر هو كذلك على سنة سلفه اللعين بجمع كومة كبيرة منها وأضرم فيها النيران على مشهد من الناس، ثم أقيم ديوان التفتيش في إسبانيا الذي تم فيه فرض التنصير على المسلمين بالحديد والنار، وستظل مذابح محاكم التفتيش على إرهاب الفكر الصليبي المتغطرس. 

لقد استمر الإرهاب المسيحي المجنون يعمل عمله في المسلمين المغلوبين على أمرهم، حتى جعل يتدخل في أدق تفاصيل حياتهم الخاصة، فقد صدر أمر ملكي بمنع صناعة الثياب التي كان يلبسها المسلمون، ولا يصنع منها إلا ما وافق زي النصارى، وحظر التحجب على النساء المسلمات، وفرض عليهن كشف وجوههن وأن يرتدين عند الخروج المعاطف والقبعات، ويحظر في الحفلات إجراء أي رسوم إسلامية، وأوجبوا على المسلمين أن يفتحوا منازلهم أثناء الاحتفال، وكذلك أيام الجمعة والأعياد، ليستطيع القسس ورجال السلطة أن يروا ما يقع بداخلها من المظاهر والرسوم الإسلامية المحرمة، وحرموا عليهم إنشاد الأناشيد القومية، واستعمال الحناء، وكذلك الاستحمام في الحمامات، وأوجبوا عليهم هدمها، ومنعوا استعمال الأسماء والألقاب العربية.

وهذا الإجرام الإسباني باسم المسيحية لا يقل عنه ضراوة وإرهابا بعض ما سجله التاريخ من أعمال مخزية قام بها الاستعمار الفرنسي البغيض في حق المسلمين الجزائريين. 

لقد طارد الاستعمار الفرنسي باسم الصليب في هذه الربوع الدين واللسان والتاريخ، ولن تستطيع بحار الدنيا، وأقلام الأرض أن تسجل مذابحه في حق أولئك الثلاثة.

وإن من قطرات ذلك البحر ما قام به الجنرال دو روفيغو القائد الأعلى للقوات الفرنسية من إخراج جميع المصاحف الموجودة في جامع كتشاوة وإحراقها في الساحة المجاورة فأحيا بذلك سنة أسلافه الخزايا في إسبانيا، وسنة هولاكو عندما دخل بغداد، وقام بعد ذلك بتحويل الجامع إلى إسطبل، بعد أن قتل فيه أربعة آلاف من الجزائريين المسلمين المعتصمين فيه احتجاجا على تحويله إلى كنيسة، وكان يقول: يلزمني أجمل مسجد في المدينة لنجعل منه معبد إله المسيحيين، ثم حول المسجد إلى كاتدرائية، حملت اسم سان فيليب، وصلى المسيحيون فيه أول صلاة لهم ليلة عيد الميلاد بتاريخ 24 ديسمبر سنة 1832 م.

تلك بعض شواهد التاريخ على أن الإرهاب الديني عقدة متأصلة في الفكر الغربي بشقيه، الصهيوني منه والمسيحي، وشواهد الواقع فما تنقله اليوم وسائل الإعلام من المذابح المروعة التي تشهدها الموصل، وقبل ذلك الفلوجة، وتكريت، وحلب، وحماة، ومضايا، والقائمة تطول على أيدي أحفاد التتار، وعبيدهم من قطعان الروافض. 

أما الإسلام، فلم يشهد على مدار تاريخه الطويل، وفتوحاته العظيمة شرقا وغربا، عمليات إبادة لإدخال المغلوبين قسرا في الدين الجديد، أو عمليات إحراق لدور العلم ومحاضن الفكر، والمجال لا يتسع لنقل عشرات الشهادات لمؤرخين غربيين أنطقهم الإنصاف، والبحث العلمي التاريخي النزيه. 

ونحن لا ننكر أن عصابات من المسلمين اليوم رفعت شعار الإرهاب باسم الدين، ولكن كان شرها على المسلمين قبل الغرب، ثم إن علماء المسلمين بل وحتى عامتهم ينكرون أن يكون ذلك من صميم الدين وأحكامه، وبعضه أحيانا هو ردود أفعال على إرهاب ألعن منه وأقسى.

والعجيب أننا اليوم أمام هذا الزخم الإعلامي المتدفق، وعمليات غسيل المخ التي تديرها جهات عالمية على مدار الساعة، ولها من الإمكانيات الرهيبة ما تستطيع به أن تقلب الوقائع، وتزور الحقائق، تريد أن تغرس في أذهان العالم أن الإرهاب صناعة إسلامية خالصة، وأن المسلمين هم حملة الموت، ورسل التخريب والدمار.

والحقيقة أنهم نجحوا في ذلك إلى حد بعيد ولكن عزاؤنا هو وعد الله لنا: (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون).

مقالات ذات صلة