-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الإصلاح.. والحروب العالمية اللامتناهية

الإصلاح.. والحروب العالمية اللامتناهية
ح.م

كثيرا ما نقرأ عن بعض المحاولات التي تُرجمت إلى كتابات وإسهامات أدبية وسياسية عما أصبح يصطلح عليه بـ”حوار الحضارات” أو “التقارب بين الشعوب” و”الجهود المشتركة” إقليمية كانت أو دولية لمحاربة الإرهاب، والعيش بسلام وغيرها من المفاهيم الرنانة والجذابة لبعض النخب التي انخرطت بقصد حسن أو غير ذلك في محاولة لترسيخ هذه القيم التي تعدُّ في ميزان الأديان أو الإنسانية أو الفكر العالمي قيما سامية ومفاهيم نبيلة.

لكن سرعان ما يتبادر إلى الذهن الأسئلة الجدلية المهمة التالية:

ما مصدر هذه الإسهامات الداعية إلى عالم آمن وبلا حروب أو صراعات؟

هل هم مسيِّرو العالم الحقيقي؟ أم مجرَّد نخب حالمة تعيش على هامش حقيقة هذا العالم القائم على الصراع والحرب والمصالح والمصالح المضادة؟

لماذا لم تهدأ الحروب والصراعات منذ مبتدإ الإنسانية إلى يوم الناس هذا؟

لماذا لم تنتصر الأصوات المنادية للسلام والأمن على كثرتها وعلوّ صوتها في الكثير من الأحيان، بل إن الذي انتصر دوما ولا يزال هو فكرة الهيمنة والصراع والاحتراب؟

أسئلة أردت من خلالها أن ألفت النظر إلى استنتاج مفاده بأن فكرة “حوار الحضارات” و”عالم بلا حروب” هي أفكارٌ، على جاذبيتها وبريقها، إلا أن أصحابها واهمون جدا، وبأنها أطروحاتٌ غير واقعية تماما، وعادة ما ينحصر مرددوها ضمن الفئات الثلاث التالية:

الفئة الأولى:

مصدرها المتغلب والقوي والمنتصر والمهيمن ليضعها شعارات تديم سيطرته وديمومة مصالحه.

الفئة الثانية:

مصدرها المهزمم الذي لا يريد أن يغامر فيلجأ إلى الطرح الحلو وغير المكلف وغير المؤلم الفارغ من مفهوم المقاومة والصمود والتحدي ورفض الواقع، لأنه لا مؤهلات له أصلا لمقاومة ذلك.

الفئة الثالثة:

مصدرها بعض النخب المسلوبة حضاريا والمتأثرة بفكر المتغلب والمهيمن والتي يستهويها استمرار الواقع والغرق في التنظير الفكري والأكاديمي المستنِد إلى الأحلام والتنظير غير الواقعي أو المُواكب للتحديات والمسايِر لحقيقة الصراع.

إن الحجج التي تدعم طرح استمرار الحرب والصراع بين الحضارات والأمم المتعاقبة هي حتمية وكثيرة، ذكرتها الأديان، شهد فصولها التاريخ، ودوّنها الشهود الذين عايشوها، ويمكن حصر هذه المبررات والدوافع في النقاط التالية:

العالم قائمٌ على فكرة عميقة وغريزية جدا وهي “المصالح” و”المصالح المضادة”، وبالتالي هي مصدر كل صراع ورغبة في أي هيمنة لضمان مصالح أكبر أو المحافظة على المصالح المكتسبة أصلا، لأن فكرة المصالح مربوطة بالأصل بفكرة الوجود والاستمرار، وأنه بلا ضمان لهذه المصالح ستبقى الكيانات المتصارعة مهددة في وجودها، وهذا الذي يجعل من الحروب أمرا واقعا بل ومحتوما.

لكل حضارة مهيمنة وأخرى تابعة أو مقاومة خلفياتٌ فكرية وسياسية ودينية وثقافية تدعوها إلى الإيمان بضرورة نشرها كقيم عالمية وإنسانية سامية ومتميزة عن قيم الكيانات الأخرى والمنافسة، بائدة كانت أو معاصرة لهذه الحضارة، وهذا الذي يجعل من فكرة الصراع والهيمنة أيضا أمرا واقعا، وأن مسعى “حوار الحضارات” ليس في حقيقة الأمر سوى رغبة مبطنة أو معلنة خلف هذا الشعار الذي لم يعد يستهوي سوى الضعفاء في هذا العالم.

فكرة “الانتقام” التي ينكرها أصحابها لكنها تظهر جلية في مخططاتهم وممارساتهم في مساحات الاحتكاك وفضاءات الصراع العالمية بسبب ما تعرض له آباؤهم وأجدادهم في العصور المنقضية وأراضي النفوذ التي فقدوها، فلا “الغالب” يريد التخلي عن نفوذه ولا “الخاسر الواعي” يريد نسيان انتقامه مما يديم الصراع ويجعله مندلعا ومستعرا بل ويأخذ أشكالا عنيفة في أغلب الأحيان.

الدعوة إلى الهيمنة والسيطرة والنفوذ الذي تمارسه الأديان، والتي طالما اندلعت حروب باسم الدين وبخاصة بين أتباع الديانات الثلاث الكبرى: (الإسلام واليهودية والنصرانية) ومحاولة إلغاء الآخر والحلول محله جغرافيا وسياسيا وثقافيا، ولا تزال الخلفية الدينية تغذي الصراعات إلى الآن، وهذا ما يجعل من فكرة “العالم الآمن” فكرة صعبة التحقيق.

إن الأمر المهم في تحليل هذه الظاهرة لا يتعلق في اعتقادي بالطرف المنتصر أو المتغلب الذي وصل بالصراع وحافظ ولا يزال على منجزه بالصراع ويستشرف سقوطه ويتفاداه بالصراع وهذا أمر طبيعي وغريزي، ولا أعتقد أن أي فكر أو دين أو حضارة أو معتقد يصل إلى سدة السيطرة والهيمنة سيقوم بخلاف ذلك، فالتاريخ والجغرافيا يخبراننا بعديد الشواهد والأمثلة، بل إن الأمر المهم بل والمؤلم أن ينسى أو يتناسى الطرف المهزوم أو المتأخر حضاريا وفكريا وثقافيا وسياسيا وعسكريا (العالم العربي والإسلامي الآن) فكرة الصراع وضرورة استرجاع مكانته وأمجاده، بل وتنخرط بعض نخبه العاجزة والمستسلمة في التسويق لفكر المنتصر والغالب (القابلية للاستعمار التي أشار إليها الأستاذ مالك بن نبي) وذلك بطرح فكرة الحوار والأمن والسلام والهدوء والتي هي في حقيقة الأمر تعبير عن “انهزام” وليست بالضرورة “قناعة”، ببساطة لأن الطرف الذي تدعوه إلى هذه القيم والمفاهيم السامية لا يؤمن بها أصلا بل ويراها مهددة لكياناته وعروشه التي في الأصل سلبها من الآخرين بالقوة والعنف والصراع.

ولذلك وجب على قوى الإصلاح المختلفة أن تدرك هذه الحقيقة الواقعية وبدل تضييع الجهود الفكرية والسياسية والتنظيرية في رفضها أو نقاشها أو تجنُّبها إلى محاولة التعايش معها وصناعة بدائل للتكيُّف معها واللعب ضمن مواقعها المختلفة إما بالتحالفات أو التكتلات أو استثمار الصراع بين مختلف القوى لصالح مشاريع الإصلاح البديلة أو الجديدة التي تبحث عن موطئ قدم ضمن المشهد العالمي، وذلك من خلال العناصر الثلاثة المهمة التالية في التخندق مع عالم الصراعات:

امتلاك وصناعة عوامل القوة على الأرض وذلك بقصد ديمومة الوجود ونشر المشروع والتفاوض مع القوى المتمكنة، فمن دون هذه الأوراق لا يمكن إنجاح أي مشروع إصلاحي ولن تنفع عواطف التهييج والأحلام الواهية غير القابلة للتحقق.

مهارة وكفاءة وحنكة وبراغماتية قادة الإصلاح، وضرورة إدراكهم لأبعاد الصراع العالمي منه والمحلي وامتلاك الذكاء الواقعي لإنجاح المشروع دون تطرُّف أو مصادمة أو تسرع قد يفضي إلى الإقصاء والتهميش.

ربط مشاريع الإصلاح في مجابهة الصراعات المحلية والعالمية بأهداف قابلة للقياس ونتائج ملموسة، وهذا متغيرٌ مهم في عملية نجاح أي حركة إصلاحية.

مختصر القول إن عالم اليوم كما العوالم السابقة أو اللاحقة لن يسير إلا بمنطق الصراع وحكم القويّ الذي ليس فيه للضعفاء أو التبع موطن قدم ولا كيان

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!