الرأي

الباديسية النوفمبرية التي نؤمن بها

بوعزيز سمير
  • 2452
  • 13
AFP

إن التاريخ يفهم على ضوء معطيات العصر الحديث وهو استثمار للوعي في تأصيل وتحديث وترقية مشروع المجتمع المتوائم في كيانه مع الماضي والحاضر والمتطلع إلى الغد دون قطائع حضارية، فاهتمامنا بتراث بن باديس هو اهتمام بمكانة الوعي وفعاليته في صنع الأنا الحضارية.

فأهم إنجاز في اعتقادنا هو تحقيق توازن في معادلة الإنسان بين ماهو مادي وماهو روحي فيجب ألا تخطئنا المادة وتغرينا بمهارج متنوريها “جماعة حرّر ذاك الشيء” عن قيم الروح والاعتزاز بمقومات شخصيتنا الوطنية.

لقد كان ابن باديس ورجال ثورتنا هم خِيارُنا مكاناً وأجَّلُناَ منزلةً، وتخليد مآثرهم هو تجديد للموعد معهم واستلهام لبطولاتهم واقتداء بتضحياتهم الخالدة، وتاريخ الجزائر مرصع ببطولات رجالها ذوداً عن مقومات الأمة وعقيدتهم الإسلامية التي شرفهم الله بها وجعل لغتنا العربية ذروة سنامها.

منذ القدم رافق القلم السيف والبندقية في نشر الوعي بين أبناء الأمة ورافقهم في كفاحهم ضد الاستعمار، فمن الأمير عبد القادر إلى الشيخ أمود، ومن بن باديس إلى معارك جيش التحرير الوطني، كلها محطات لم ينفصل فيها العالم بقلمه عن المجاهد بسيفه وبندقيته.

لسنا هنا بصدد سرد التاريخ ولا التغني بالأمجاد قصد التورية عن مخاذل أو هنات ولكن هي ملامسة للتاريخ بمعناه الواعي؛ أي معايشة الوجود الدائم ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.

إنه من الخطأ بمكان الاعتقاد بأن ثورة نوفمبر العظيمة، انبلج صبحها من غياهب العدم، أو لاحت أنوارها من سديم الأيام، بل هي خلاصة لتراكم القيم والمواقف والأفكار والنضالات والتضحيات الجمة والإيمان المطلق بنصر الله، كما أنها نقلة نوعية على مستوى الذهن الجماعي، الذي أحدث فيه العقل الباطني لشعبنا طفرة حقيقية شهدنا وسنشهد معالمها مستقبلا على الرغم مما سيلاقيه رجالات الجزائر من إجحاف ومحاولات لطمس الهوية، وحروب إيديولوجية مقيتة من قبيل حروب “الأبارتايد” الثقافي.

لقد كان قادة الثورة أمة بأكملها وقائمتهم بحجم الجزائر مساحةً وتاريخاً، لقد كانوا ثورة مشكلة من شخص واحد كما قال محمود درويش…

لقد أخذوا من يوغرطة زين الشباب، ومن سيفاقس دهاء القادة، ومن جوبا الثاني حكمة الشيوخ، ومن عقبة بن نافع الفهري إستراتيجية القيادة والعزم والحسم، ومن أبُّو المهاجر الدينار سماحة الإيمان، وأخذوا من الأمير عبد القادر الصمود، ومن مصالي الحاج التحدي، ومن بن باديس الورع والثبات على المبدأ، وتواضع العظماء وأمانة الأمناء، وأخذوا من الجزائر في اتجاه القبلة للصلاة والتعبد لرب العباد،كذلك كانوا هؤلاء الرجال ولا يعرف فضائلهم إلاَّ من تخندق تخندقاً تاماً في المنهج الذي اتبعوه.

فبفضل هؤلاء الرجال الذين أكرمهم الله وأعلاهم منزلة فوقنا جميعا، ننادي اليوم بأعلى صوت أريج الحق، ونتنسم شآبيب عهودهم المقدسة في هذه الأرض الطاهرة.

وتاريخنا الوطني على مد القرون، عامر بالمآثر مفعم بالأحداث، متوج بالمعاني السامية، وما ثورة نوفمبر إلا خاتمة لجهاد رجال الجزائر ونضالات ومواقف بن باديس الخالدة الذي أعاد إحياء ضمير الهوية بعد مئة سنة من الاحتلال معتمدا على شعار “الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا” والذي خون كل من تبناه، ليعيد إنهاض الهمم ويغرس في جيل جديد قيَّضه اللّه للجزائر معاني الشجاعة والذكاء، والإيثار عن النفس والإقدام على المكاره، والقدرة الخارقة على التفكير بشكل ايجابي ليقود قاطرة التحرر من مستدمر حاول بكل ما أوتي من قوة طمس المكنون الجزائري.

ودفاعنا اليوم عن مشروع الباديسية والنوفمبرية لا يعدو كوننا نعتبر أنفسنا اليوم أننا الورثة الشرعيون لمشروع مجتمع متكامل أسس بنيانه العالم الجليل عبد الحميد بن باديس وصقله وعمل على تطويره قادة الثورة العظماء خريجي المعاهد الحرة التي أسسها شيخنا الفاضل والذين قادوا أقوى ثورة في القرن العشرين، ويتبنى هذا المشروع قضايا الشعب من أبسطها إلى أعقدها، من المسائل الاجتماعية والاقتصادية إلى مكونات الهوية وثوابت الأمة ومقوماتها كما جاء في بيان أول نوفمبر،وعليه فيحق لنا جميعاً التصدي والوقوف كسد منيع ضد هذه الأصوات الناعقة والتي لا تريد خيراً لهذا الوطن، وهي أصوات تحاول جاهدة التموقع من جديد لأنها فقدت حتى الكراسي الاحتياطية، وهي التي تسلمت كل شيء في شكل “هبات”، اليوم فقدت كل شيء؛ لا لشيء لأن الشعب اليوم أصبح أكثر وعياً من ذي قبل، وكشف ألاعيبهم وسيقبر مشاريعهم المبنية على إيديولوجية لا تتوافق وإيديولوجية هذه الأمة، هذه الصحوة وهذا الوعي هو من سيضعنا على سكة الانتماء العربي الإسلامي بالمنظور الصحيح للإسلام.

لأن واقع الأمم في حياتها ترفض كل الإملاءات الجاهزة التي لا علاقة لها بانتمائها ومقوماتها، وهناك تباين بين الرفض الذي يهدف إلى التصحيح والتوضيح، والرفض الموجه من الخارج، ومن دول تكن العداء الدائم لنا، تعمل على احتواء توجهات البعض وفق ما تقتضيه مصالحها؛ ومصالحها اليوم تقتضي ضرب وحدتنا ومقومات هويتنا لتشتيت شملنا عن طريق وكلائها.

لذلك نتساءل اليوم عن ماهي مبررات الحملات المركزة والمغرضة ضد التيار الباديسي النوفمبري في هذه المرحلة بالذات؟

وماهي أهداف من يُلَوِّثُون الأجواء الوطنية بالعزف على أوتار أعداء الجزائر لضرب التيار وتشويه صور رجاله؟

ألم يحن الوقت ليرتفع الوعي الوطني إلى مستوى الذود عن مقومات الأمة؛ للتفرغ للقضايا الحقيقية وبناء المستقبل للأجيال الصاعدة؟

(*) رئيس أكاديمية الشباب الجزائري

مقالات ذات صلة