-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

البطاطا الخِلافية

جمال لعبيدي
  • 1555
  • 0
البطاطا الخِلافية

أخذت النقاشات المتكررة حول “المضاربة” و”الندرة” طابعا جديدا في الأسابيع الأخيرة بعد أن أعربت السلطات عن عزمها على تشديد العقوبات التشريعية والجزائية في هذا الميدان.

 شدة العقوبات المرتقبة فاجأت بل صدمت كثيرا من الناس وتركت انطباعا بتهويل الموضوع. إن الحكومة تريد أن تبرهن على أنها مهتمّة بالدفاع عن القدرة الشرائية للمواطنين، لاسيما الشرائح الاجتماعية ذات الدخل المتدني، نعم، لكن هل الطريقة سليمة؟ ألا يوجد خطر الانزلاق نحو تسيير إداري، بل أمني للاقتصاد لم يزد، في يوم من الأيام، عن كونه أبغض الحلول ولم يعطِ، في أي مكان، نتائجَ تتصف بالديمومة؟ في المقابل، ألا يُستحسن تفضيل المناهج الاقتصادية دون غيرها عندما يتعلق الأمر بمعالجة مشاكل كهذه؟ لهذه المناهج دائما ميزة التمركز ضمن اتجاه الحركية الاقتصادية وبالتالي جعل الاقتصاد يتقدم.

الجزائر الجديدة موجودة في الزراعة

ما يحدث الآن يثير المزيد من الدهشة خاصة بالنظر إلى السياق القائم الذي تطبعه نتائج اقتصادية طيبة في الزراعة جعلت نسبتها، في الناتج الداخلي الخام، تقترب من نسبة المحروقات بتغطية حوالي 72 % من الاحتياجات الغذائية للبلاد، إلى جانب فتح آفاق واعدة في قطاعات لا تزال تتسم بالضعف كإنتاج الحبوب. الجزائر تعتبر، حسب البرنامج العالمي للتغذية، الأولى في إفريقيا ومن بين الأوائل في العالم فيما يخص تحقيق الأمن الغذائي.

وتتميز المنتوجات الزراعية الجزائرية بتنوع هائل، كما وقع ترتيب العديد منها ضمن العشرين الأوائل في العالم1. وقد أعرب رئيس الجمهورية نفسه عن تفاؤله إزاء هذا التقدم الهام وإزاء الآفاق الحقيقية للتوصل إلى الاكتفاء الذاتي الغذائي على المدى القريب. لماذا التشنُّج إذن؟ لماذا اللجوء إلى لغة أوضاع البلدان المتأزمة غذائيا؟ ألا يوجد خطر بث القلق والحيرة بينما كل شيء في ميدان الإنتاج الزراعي يدفع، في الوقت الراهن، إلى بث الطمأنينة؟

إذا كان هناك جزائر جديدة، فإن انطلاقها كان من الزراعة بالذات. وقد تقدّمت الزراعة بالضبط لأنها تحررت، إلى حد كبير، من الإكراهات القاتلة لزراعة الدولة التي كانت تخنقها طيلة عشرات السنين. إن الزراعة تقدّمت لأن العمل فيها بات مجزيا ماديا أكثر فأكثر، مضطرد الربح، ولأنها تتعصرن بفعل جلب المزيد من أصحاب الشهادات والكفاءات، ولأنَّ الحياة في الريف أفضل، على الأرجح، مما هي عليه في المدينة في العديد من المناطق، الأمر الذي يفسِّر جوَّ الاستقرار الذي ميَّز الجزائر العميقة أثناء الأزمة السياسية الأخيرة. ينبغي إذن الاستمرار في نفس النهج، أي المزيد من حرية المقاولة والبيع. يا للخسارة لو وقع وقف هذا المسار من خلال العودة إلى أشكال الرقابة المبالغ فيها والتي لا تؤدي إلا إلى توسيع دائرة علاقات النفوذ، والزبانية، والخوف، وفي النهاية الفساد، وإزالة قيمة المبادرة والعمل.

التخزين والمضاربة

تركزت النقاشات والتوترات بشأن البطاطا على التخزين، وجرى ربطه بالمضاربة في كثير من الأحيان، وهو خطأ إلى أبعد الحدود.

لنقم بتحليل اقتصادي بسيط لتخزين البطاطا، علما أنه ينطبق على أي منتوج مهما كان: من يخزِّن، سواء كان مزارعا أو وسيطا أو تاجر جملة، يحفظ البطاطا أو يشتري كمية منها عندما تكون الأسعار متدنية. فهو يساهم، بهذه الطريقة، في تثبيت الأسعار في السوق، وبالتالي في حصول العمل الزراعي على أجر مجز. وعندما ترتفع الأسعار تملي عليه مصلحتُه أن يبيع، فيساهم بالتالي في خفض الأسعار في السوق، انخفاضا نسبيا، لفائدة المستهلِك هذه المرة وكذلك لفائدته الخاصة وفائدة المنتِج أيضا، الذي يتقاسم معه الأرباح بمقتضى اتفاق مسبق في بعض الأحيان. وهكذا يؤدي دورا في ضبط السوق، فمن العدل إذن أن يكافَئ هذا النشاط المتعلق بالتخزين. كما أن بقاء أسعار مجزية يشجع المزارع على زيادة الإنتاج ويساهم بالنتيجة في خفض الأسعار في النهاية.

البعض، ممن تربوا طيلة عشرات السنين من اقتصاد الدولة على نظرة إنتاجوية، يختزل الاقتصاد في الإنتاج. هؤلاء ينظرون إلى كل نشاط تجاري خاص بأحكام مسبقة، يتسرعون في وصفه بالطفيلي ويرتابون في أمر المزارعين وتجار الجملة الذين يقومون بالتخزين. إنها أحكامٌ مسبقة ذات طابع إيديولوجي لأن التخزين نشاط اقتصادي أساسي، في الحقيقة، منذ بدايات البشرية، وهو ضروري لحفظ المنتوجات ولتوزيع البضائع معا. بصفة عامة، لا يوجد إنتاجٌ من دون توزيع، ومن دون تجارة. وعندما يتم صنع منتوج ما ولا يباع، يتوقف إنتاجُه. وعليه، يجب التخلي عن النظرة البيروقراطية القائمة على الارتياب، إن لم يكن العداء، إزاء النشاط التجاري والخدمي، إذ لا توجد حضارة من دون تجارة.

الدولة ليست قائمة لهذا الغرض

إننا من الدول القليلة جدا التي يحتل فيها الخطاب حول المضاربة هذا الحيز الكبير. لماذا؟ لأن الاقتصاد المسيَّر إداريا لا يزال هاما عندنا، سواء بواسطة القطاع الاقتصادي للدولة، بصفة مباشرة، أو بواسطة التصورات السياسية أو الإيديولوجية، بصفة غير مباشرة. نحن البلد الوحيد غير المحاصَر خارجيا الذي لا تزال الدولة تقوم فيه بالإتجار أو بالتوزيع فيما يخص الحليب والقمح والبطاطا واللحوم والدجاج، الخ. إنه أمر مثير للسخرية؛ فالدولة ليست قائمة لهذا الغرض.

لا يزال كثير من الناس يحملون عن الزراعة نظرة عفا عنها الزمن في حين أن الجزائر تحتلّ، على المستوى العالمي، مراتب متقدمة في عدد من المنتوجات (أرقام 2018): 14 عالميا في البرتقال بـ1،1 مليون طن، 16 في الشعير بـ1،9 مليون طن، 18 في الطماطم بـ1،3 مليون طن، 16 في البصل، الرابعة عالميا في التمور، 6 في الزيتون، 4 في المشمش، 5 في الخرشف، 4 في التين، 6 في البطيخ الأحمر… هذا وقد انتقل إنتاجُ العدس، البالغ الأهمية، من 450 طنا عام 2001 إلى 30.000 طن عام 2018… (المصدر: Wikipedia, l’agriculture en Algérie).

تبدي السلطات أحيانا استغرابها من ارتفاع أسعار مواد مدعمة، وترى فيه تلقائيا دليلا على المضاربة. هذا صحيح شريطة أن ندرك بأن الدولة هي التي تنتج، رغما عنها هنا، المضاربة الحقيقية، المضاربة المعمَّمة، كالتي عرفناها طيلة عشرات السنين ونعرفها كل سنة وهي مصحوبة بنفس الخطاب المعهود. إن دولتنا تعتقد، بدافع اجتماعي صائب، أنها هكذا أحسن ما فعلت وأنها تدافع عن القدرة الشرائية للساكنة. الطريق إلى جهنم مفروشٌ بالنيات الحسنة.إن الآلية المنتِجة للمضاربة بسيطة ومعروفة تماما: يكون الشراء لدى الدولة، حيث الأسعار متدنية مقارنة بأسعار السوق، أفيد من الإنتاج. بتعبير آخر، تقوم الدولة– الموزِّعة بالإخلال بنظام السوق وبخلق المضاربة لأنها ببساطة تخلق مضاربين يستفيدون من فارق الأسعار بين أسعار الدولة وأسعار السوق. سؤال: لماذا الدولة وليس المتعامل الخاص، البائع بالجملة، هي التي تخلق هذا الشكل من المضاربة؟ السبب واضح: المصلحة الخاصة؛ البائع بالجملة الذي ينتمي إلى القطاع الخاص لن يتصرّف ضد مصلحته الخاصة عند البيع، فيبيع بسعر السوق، أما المتعامل الدولاني (نِسبةً إلى الدولة)، فيستطيع أن يبيع بسعر الدولة لمعارفه من دائرة “الأصدقاء”، ومن “شبكة النفوذ” وغيرهم، كما يستطيع أن يضرب عرض الحائط بمصالح الدولة وبمصير كيس البطاطا الذي باعه ويعاد بيعه في السوق بسعر أعلى. حصل هذا مؤخرا بالنسبة للقمح، الأمر الذي فجر فضيحة “الديوان الجزائري للحبوب”، كما حصل الشيء نفسه بالنسبة لشركات الدولة التي تتاجر في اللحوم والحليب، وغيرها. يحدث هذا منذ عشرات السنين وسيتكرر حتما السنة المقبلة إذا بقي الوضعُ في هذا المجال على ما هو عليه.

ما حققته الزراعة جعل نسبتَها، في الناتج الداخلي الخام، تقترب من نسبة المحروقات بتغطية حوالي 72 % من الاحتياجات الغذائية للبلاد، إلى جانب فتح آفاق واعدة في قطاعات لا تزال تتسم بالضعف كإنتاج الحبوب. الجزائر تعتبر، حسب البرنامج العالمي للتغذية، الأولى في إفريقيا ومن بين الأوائل في العالم فيما يخص تحقيق الأمن الغذائي.

هذا الشكل من المضاربة المخاتلة، الزاحفة في كل مكان، يُدخلنا في دوامة اقتصادية وسياسية، في نفس الوقت، لا نهاية لها: ارتفاع الأسعار، مراقبة، قمع، ندرة، مضاربة… دوّامة لا نفرِّق فيها بين السبب والنتيجة، منطلقها تشخيص خاطئ متمثل في تجاهل الأسباب الهيكلية للمضاربة وبالتالي تجاهل ضرورة إدخال تحوُّلات هيكلية.

مؤامرة؟

يشار إلى وجود مؤامرة إذ يتعلق الأمر ببساطة بسريان قانون السوق، قانون العرض والطلب، وحيث لا يوجد بالضرورة مخرِّبون أشرار، متآمرون لئام ومضاربون ومصاصو دماء يجب ملاحقتهم وقمعهم مع ما ينجرّ عن الملاحقة والقمع من انعكاسات سياسية واجتماعية، وبالتالي فقدان طاقة اجتماعية ثمينة لبناء الجزائر الجديدة.

إن استعمال طرق غيراقتصادية لحل مشاكل اقتصادية لم يسبق أن أعطى نتيجة طيبة، كما لا تستطيع أي سلطة سياسية إخضاع قانون السوق لمشيئتها أو تجاهله.

ظهر موضوع مكافحة المضاربة تاريخيا بموازاة ظهور موضوع اقتصاد الدولة في مطلع القرن الـ20 بالاتحادالسوفييتي، فقد جرى اتهام الفلاحين، “الكولاك”، كما قيل عنهم، الذين كانوا يريدون بيع إنتاجهم حسب أسعار السوق، بتخزين الحبوب وإخفائها، فتعرَّضوا لقمع وحشي. وأدى ذلك إلى وقوع مجاعة رهيبة. ومنذ ذلك الوقت، لم يقُم للاقتصاد الزراعي السوفييتي قائمة. وشهدت الصين وقوع أزمات مماثلة.

إنها أحكامٌ مسبقة ذات طابع إيديولوجي لأن التخزين نشاط اقتصادي أساسي، في الحقيقة، منذ بدايات البشرية، وهو ضروري لحفظ المنتوجات ولتوزيع البضائع معا. بصفة عامة، لا يوجد إنتاجٌ من دون توزيع، ومن دون تجارة. وعندما يتم صنع منتوج ما ولا يباع، يتوقف إنتاجُه. وعليه، يجب التخلي عن النظرة البيروقراطية القائمة على الارتياب، إن لم يكن العداء، إزاء النشاط التجاري والخدمي.

أما عندنا، لنتذكّر سنوات 1970، سنوات زراعة الدولة والندرات، من بينها ندرة البطاطا بالذات؛ لقد كانت هذه المادة تباع بأسعار منخفضة، صحيح، لكنها لم تكن متوفرة أو تباع مدوَّدة، عجفاء، تالفة، بسبب نقص وسائل التخزين، من قبل تاجر يشترط شراء مادّة إضافية. ولنتذكر أيضا سنوات 1980، سنوات “أسواق الفلاح”، تلك المحلات التابعة للدولة التي جرى تصويرُها في البدء كوسيلةٍ لمحاربة ارتفاع الأسعار وتحولت إلى بؤر للمضاربة وللإتجار بالنفوذ فيما يتعلق بالحصول على المنتوجات والسلع. وتعرّض عددٌ كبير منها للتلف أو الحرق، أثناء مظاهرات 1988، فكانت نهايتها.

“المخزِّن الطيب” و”المخزِّن الشرير”

مسألة مكافحة المضاربة في الإنتاج والتجارة، المطروحة حاليا بالنسبة للبطاطا، تعدُّ نموذجية لأنها تتعلق، في الواقع، بكيفية التطرق إلى موضوع زيادة الأسعار والندرة بصفة عامة. قبل ذلك، يجب أن نضيف: إذا ثبُت وجود ندرة بالفعل لأن الأمور تتعقد، في بعض الأحيان، بفعل نوع من الهوس يؤول إلى الزوال بنفس السرعة التي ظهر بها. يتوجب إذن تنسيب هذه المسائل.

فيما يخصّ محاصيل البطاطا، تم مؤخرا إدراك الأهمية الاقتصادية للتخزين. واقترن هذا الإدراك بمحاولة للتفريق بين “المخزِّن الطيب” و”المخزِّن الشرير”، غير النزيه. ثم انجرّ عن ذلك اتخاذ قرار يقضي بإخضاع نشاط التخزين لمراقبة إدارية لصيقة من خلال تنظيم معقد يتطلب تجنيدا واسعا لطاقات جهاز الدولة. لكن هل تمييز المخزِّن “الطيب” من “الشرير” ممكن؟ ألا يؤدي هذا الأسلوب إلى إفساح المجال واسعا للتعسف الإداري؟ بدأت الصحافة تتحدّث منذ الآن عن بروز حالات عديدة لمزارعين وتجار جملة نزهاء تعرّضت مخزوناتُهم من البطاطا للحجز، بما فيها مخزونات البطاطا المُعدَّة للبذر. ومهما يكن الأمر، هناك خطر إرساء جو من انعدام الثقة ومن خوف التعرّض لعقوبات غير متوقعة قد ينجم عنه ابتعاد الكثير من المزارعين والموزِّعين والمستثمرين عن هذا القطاع. وبالنتيجة قد يتولد خطر تفجُّر أزمة إنتاج وندرة وارتفاع أسعار فمضاربة. غير أن المضاربة في هذه الحالة سوف تكون أخطر مما هي عليه الآن، لأنها ستقع في سياق يتميز بانخفاض الإنتاج. وسوف يكون الدواء آنذاك أسوأ من الداء نفسه، وهو أمرٌ يُؤسف له مقدما، لاسيما بالنسبة لنشاط كإنتاج البطاطا الذي شهد، خلال الأعوام الأخيرة، انطلاقة قوية في منطقة وادي سوف وغيرها حتى أصبحت الجزائر في المرتبة الـ17 عالميا فيما يخصُّ هذا المنتوج.

إننا من الدول القليلة جدا التي يحتل فيها الخطاب حول المضاربة هذا الحيز الكبير. لماذا؟ لأن الاقتصاد المسيَّر إداريا لا يزال هاما عندنا، سواء بواسطة القطاع الاقتصادي للدولة، بصفة مباشرة، أو بواسطة التصورات السياسية أو الإيديولوجية، بصفة غير مباشرة. نحن البلد الوحيد غير المحاصَر خارجيا الذي لا تزال الدولة تقوم فيه بالإتجار أو بالتوزيع فيما يخص الحليب والقمح والبطاطا واللحوم والدجاج… إنه أمرٌ مثير للسخرية.

إن اللجوء إلى طرق غير اقتصادية يتطلب الأخذ بالاعتبار ثمنها السياسي والتوترات الاجتماعية التي تترجمه. إن طبقة التجار أدت دورا جديرا بالتنويه، دورا وطنيا أثناء الأزمة السياسية الأخيرة. إنها لم ترضخ أبدا لدعوات ضرب استقرار البلاد ولنظرية الكارثة، وظلت تضع باستمرار مصلحة البلاد فوق كل اعتبار. وقد تؤدي التوترات السائدة حاليا في قطاع توزيع البطاطا إلى إقلاقها، إلى نشر شعور بين التجّار ككل بأنهم ليسوا في مأمن من حدوث أوضاع مشابهة. وعليه، نتمنى أن لا تتحول البطاطا إلى سببٍ للنزاع والشقاق.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!