الرأي

التجربة الطبّية في كُوبَا الصديقة!

ح.م

تساءل زميلٌ رياضياتي مغترب، كان له إسهام قبل عقود في نمذجة الأوبئة، عن الوضع الصحي في الجزائر، مبرزًا أن بعد إيطاليا صار الفرنسيون – رغم مدرستهم الطبّية الراقية – يطالبون باللجوء إلى الكوبيين لمواجهة فيروس كورونا. وأضاف: لماذا لا تتأمَّل الجزائر في منهجية تدريس الطب في كوبا وطريقتها في العناية بصحة مواطنيها منذ ثورة فيديل كاسترو (1926-2016) عام 1959 وتقتدي بها؟ واللافت أن هذا التفوّق الطبي لكوبا يحدث، وهي ترزح تحت الحصار شبه الكلي من قبل الولايات المتحدة منذ 1962.

الجزائر والاشتراكية

ولفت زميلٌ آخر من داخل الوطن النظر إلى أن كوبا وكثيرا من دول “المعسكر الاشتراكي” (الصين، روسيا، فيتنام، دول حلف وارسو…) نبغت في تخصصات عديدة (غير عسكرية)، مشيرًا أيضا إلى أن حقل الطب يمثّل في الوقت الراهن أحسن برهان على ذلك. ويضيف: نحن أيضا كنا نُعدّ من “الجناح الاشتراكي” في العالم، فلماذا لم ننبغ في حقل من هذه الحقول العلمية؟!

كنّا في عام 1975 في دورة تدريبية لغوية في لندن، وكان الشباب الحاضر كله من الغربيين سوى اثنين، كاتب هذه الكلمات وطبيب بيطري إفريقي يؤمن بالمبادئ الاشتراكية حتى النخاع. ولتحذير الجزائر الاشتراكية، كرّر لي أن رئيس جمهورية بلاده كان خلال الاستعمار الفرنسي من المرتزقة المحاربين إلى الجانب الفرنسي ضد الثورة الجزائرية.

وكان يروي لي قصته مع الاشتراكية خلال الستينيات، وكيف استبشر باستقلال الجزائر وانتشى لخيارها للمذهب الاشتراكي. ولذلك غادر بلاده عندما انتهى من دراسته، وقدِم إلى الجزائر متحمسًا لخدمة الاشتراكية فيها، فعُيِّن في المعهد الفلاحي بمستغانم. وفي هذا السرد لنضاله عبَّرَ هذا البيطري عن خيبة أمله الكبيرة في نموذج اشتراكيتنا قائلا: “وهناك (أي بمستغانم) وقفتُ على مفهوم الاشتراكية الجزائرية”! وبعد شهر أنتهت الدورة التدريبية، وعند المغادرة، سألنا هذا الطبيب، الصادق في نضاله، إلى أين هو متجّه الآن؟ فردّ بحماس الثوريين بأنه متجّه رأسًا من لندن إلى كوبا لخدمة الاشتراكية!

أطباء كُوبَا

في نهاية العام الماضي، وردت إحصائياتٌ في الإعلام تشير إلى وجود نحو 900 طبيب كوبي في الجزائر يعمل جلهم في طب العيون. وقد “صدّرت” كوبا إلى أزيدِ من 60 دولة نحو 50 ألف طبيب يَدُرّون على بلدهم أزيد من 10 ملايير دولار سنويا. ذلك أن الطب في كوبا يُعدّ المصدر الرئيس للعملة الصعبة. لقد اختارت كوبا منهجًا يشيد به البعض ويستنكره البعض الآخر.

وتقوم الحكومة الكوبية بإبرام اتفاقيات مع دول العالم لتزويدها بأطباء، وتدفع تلك الدول رواتب لهؤلاء الأطباء تقتطع منها كوبا نسبة مئوية تذهب إلى الخزينة العامة. وهذه المقتطعات المُقَدّرة بملايير الدولارات تنفقها السلطات في العلاج المجاني لكل المواطنين، والتعليم المجاني للجميع. وهكذا، نجد ما يفوق 22% من الناتج الداخلي الخام في كوبا يُوجَّه إلى هذين القطاعين الحيويين. وفي هذا الباب، تُبرِز الإحصائيات أن هناك طبيبا لكل 147 مواطنا في كوبا، وهي من أفضل النسب في العالم. أما في مجال محو الأمية، فقد قضت عليها كوبا بنسبة فاقت 99%، وبذلك صارت تتصدّر قائمة البلدان التي نجحت نجاحا باهرا في هذا المجال الاجتماعي.

ومن المعلوم أن النظام السياسي في كوبا لا زال يزعج الولايات المتحدة وأتباعها في القارة الأمريكية. وهذا الوضع أدى في نهاية السنة الماضية إلى فسخ عقود الأطباء الكوبيين العاملين في بلدان مثل البرازيل وبوليفيا والأكوادور، إذ لجأت حكوماتها إلى طرد نحو 9 آلاف طبيب عادوا إلى بلدهم كوبا. وتقول الدعاية المضادة لكوبا مبررةً عملية الطرد، إن من هؤلاء الأطباء الذين ترسلهم كوبا هم مناضلون سياسيون وضباط مخابرات. والآن تعمل كوبا على “تصدير” الأطباء المطرودين إلى بلدان أخرى عبر العالم بعد ما أصاب العالمَ من فيروس كورونا.. فمصائب قوم عند قوم فوائد!

التعاون الكوبي مع الخارج

وحتى تبرهن كوبا على قدراتها في مجال الصحة، فإننا نجدها حاضرةً عندما تحلّ الكوارث في عديد بلدان العالم: عندما وقعت كارثة تشرنوبيل عام 1986، نقلت أوكرانيا إلى كوبا نحو 19 ألف مواطن أوكراني للعلاج. وفي عام 2005، حينما عرفت باكستان زلزالا عنيفا خلّف عشرات آلاف الموتى، كان أكبر مساعدٍ لها هو كوبا إذ سهر أطباؤها على معالجة أكثر من 1.5 مليون نسمة من ضحايا الزلزال خلال 7 أشهر. ويُذكر أن عدد هؤلاء الأطباء الكوبيين ناهز 3 آلاف طبيب، منهم أزيد من ألف طبيبة وضعن الخمار فوق رؤوسهن احتراما لتقاليد هذا البلد الإسلامي. وقد قدّمت كوبا آنذاك ألف منحة للطلبة الباكستانيين لتمكينهم من دراسة الطب في جامعة هافانا.

وفي إفريقيا، حين تفشّى وباء إيبولا كتبت صحيفة نيويورك تايمز، رغم مناهضتها للحكم الكوبي، افتتاحيةً يوم 19 أكتوبر 2014 بعنوان “دور كوبا الرائع في مكافحة وباء إيبولا”، جاء في مقدمتها: “بعد أن تعهَّدت كوبا بنشر مئات الأطباء والممرضين في الخطوط الأمامية للوباء، فإنها ستؤدي الدور الأقوى بين الدول الساعية لاحتواء الفيروس”.

ولعل القارئ الجزائري لم يطلع على أن التعاون الخارجي لكوبا في المجال الطبي بدأ عام 1963 عندما استقلت الجزائر، وانسحب منها الأطباءُ الفرنسيون بصفة جماعية. في تلك الفترة، لم تمض على الثورة الكوبية سوى ثلاث سنوات، وكانت هي ذاتها بحاجة إلى أطباء لأن نصف مجمل أطبائها فرّوا من البلاد عقب الثورة. ومع ذلك، أرسلت لنا كوبا فرقا طبية لمساعدتنا في هذا المجال دعما للمدّ الاشتراكي الذي كنّا نتغنّى به كثيرا في ذلك الوقت.

تَعدّ الأمم المتحدة المدرسةَ الطبيّة الكوبية قدوة في هذا المجال، ومن أرقى مدارس العالم. وقد تدرب فيها ما يزيد عن 30 ألف طالب من نحو 70 دولة.

يبقى أن ندرك بأن مصيبتنا في المجال الطبي هي أن ميزانيتنا تُكوّن عددا هائلا من الأطباء، كثير منهم ذوو كفاءة عالية، يغادرون البلاد من أجل حياة أفضل.. فلا نستفيد منهم، بل يستفيد منهم غيرُنا. وفي ذات الوقت نرسل مرضانا خارج البلاد للعلاج! أما كوبا فهي الرابحة في الاتجاهين: فإلى جانب السمعة العالمية الباهرة، يقصد الأجانب عاصمتها بالآلاف من أجل العلاج فيها وتعلم فنّ التطبيب في جامعتها ومستشفياتها. فكيف لا نعي ونقتدي بهذا البلد الصديق في تسيير قطاع الصحة؟!

مقالات ذات صلة