الجزائر.. الفرصة الضائعة
عندما كان الإرهاب يحصد العشرات من الضحايا ويدمر كل ما يجده أمامه من ممتلكات عامة وخاصة، كنت أقول لمن حولي أن مرحلة الإرهاب هي ممر إجباري ستقطعه كل الشعوب العربية لأن الانتقال من مرحلة تقديس الحاكم واستعمال الدين في السياسة من طرف الأنظمة الفاسدة لتوطيد حكمها وزيادة سيطرتها وكذا من طرف مجموعات غير واعية سياسيا ولا مدركة للب وجوهر الدين الحق مما يجعلها لا ترى في الإسلام سوى المظهر والشكل؛ الانتقال من هذه المرحلة إلى مرحلة الديمقراطية والتداول الحر على السلطة وحرية التعبير لا يمكن أن يتم في هدوء لأن الديمقراطية لا تُولد في البمتعة. كذلك كنت أرى الأمور وكان اعتقادي أن كل دماء الجزائريين التي سالت، في مرحلة الإرهاب، من شأنها أن تفتح الطريق أمام الجيل الجديد ليبني نظاما سياسيا يتبارى فيه أبناء الجزائر على أيهم يشيد أفضل ومن منهم يضحي أكثر ومن يقترح أحسن الخطط.
مع نهاية القرن الماضي، بدأت الجزائر تستعيد أمنها واستقرارها، وكان كل الفضل في ذلك يعود للذين آمنوا بضرورة توقيف شلال الدماء والقبول بالجلوس إلى طاولة الحوار. في هذه الأثناء لعب الرئيس اليمين زروال دورا بارزا لبعث الحوار وإقناع المتشددين به. لم تكن المهمة سهلة عليه وهو الجنرال الآتي من الثكنة العسكرية ولم يكن يمارس السياسة ولا اهتم بها يوما.
اليمين زروال لم يكن سياسيا لكنه كان مفعما بحب الوطن فسعى بكل ما استطاع إليه سبيلا، في جو معاد وغير نقي وظروف اقتصادية جد صعبة، إلى إنقاذ الجزائر ولا شك أن التاريخ سيسجل لهذا الرجل أنه كان من طينة الكبار الذين قدموا الكثير للوطن ولم يأخذوا منه أي شيء كما لم يقربوا أهلهم وأفراد عائلاتهم ولا استعملوا المال العام لغير الصالح العام.
قلص زروال عهدته الرئاسية وكانت الجزائر خارجة فعلا من مرحلة الإرهاب وبدأ التحضير لانتخابات رئاسية جديدة وكانت كل الظروف مهيأة للانتقال بالنظام، الذي كان عمر منذ استعادة السيادة الوطنية وأوصل البلد، في الأخير، إلى أن يتقاتل الجزائريون في ما بينهم، إلى النظام الجديد الذي اعتقدنا أن مرحلة الإرهاب هي الممر الإجباري للوصول إليه.
تكلم بعض المثقفين عن الجمهورية الثانية وقال بعضهم أن الجزائر تنتقل من حكم العسكر إلى الحكم المدني، ورأى البعض الآخر أنه مهما كان الآتي إلى رئاسة الجمهورية فسيكون مجبرا على العمل مع الكفاءات الوطنية الشابة والكفأة والنزيهة.
كانت الأحلام كبيرة والظروف مهيأة لتحقيقها وأهم هذه الظروف هو الإنسان الجزائري.
الجزائري الخارج من مرحلة الإرهاب كان مستعدا ومهيأ لينتظم وليعمل وحتى ليشقى من أجل الحفاظ على السلم الذي بدأت تباشيره تلوح. كان كل هم الجزائري أن ينام ويستيقظ ويخرج ويسير في الشارع ويعمل .. باختصار: كان الجزائري يريد اليعيش بدون خوف.
كانت مرحلة حبلى بالأحلام وأعاد وصول بوتفليقة إلى الحكم إحياء رغبة الجزائريين في بناء الدولة التي لا تزول بزوال الرجال والحكومات. رأى الشعب الجزائري في الرجل الذي هو “أكبر من نابوليون بعدة سنتيمترات” عملاقا خارجا من تحت برنوس المرحوم هواري بومدين الذي مثل، في زمنه، الرجلة الجزائرية بكل قوتها وعنفوانها.
بدأت مرحلة بوتفليقة إذن مع نهاية الإرهاب ومع انطلاق مؤشر سعر البترول نحو الأعلى لينتقل، في فترة وجيزة، من عشرين دولار متجاوزا المائة دولار ليصل، في فترة معينة، المائة والسبعين دولار للبرميل.
كل شيء كان جاهزا لتباشر السلطة الجديدة عملية إعادة بناء شاملة للجزائر، ومن كل النواحي، غير أن ذلك لم يحدث.
باشر الرئيس الجديد عهدته الأولى بالعمل خارج الوطن من خلال سفريات لا تنتهي إلى كل قارات العالم، متنقلا من دولة إلى أخرى من أجل “استعادة دور الجزائر” لدى المجموعة الدولية، كما قيل لنا وقتها، أما في الداخل، فلم يحدث التغيير الذي كان منتظرا. كل ما وقع هو أن النظام نجح في تحويل الشعب من وضعية ما بعد الإرهاب التي كان مستعدا فيها لعمل أي شيء من أجل لحظة هناء إلى شعب يطالب بحقه من الثروة التي يراها تبدد في استثمارات بلا عوائد وواردات قتلت كل ما أبقاه الإرهاب من صناعات جزائرية ومهرجانات الرقص والغناء. شعب أصبح يثور في كل مكان ومن أجل أي شيء ليجبر المسؤولين المحليين على الاستجابة لمطالبه ولشراء سكوته بأي ثمن.
لست هنا بصدد تقييم مرحلة بوتفليقة، بل فقط للتنبيه بأن الجزائر فقدت فرصة أخرى من تاريخها، فعوض الانتقال نحو الديمقراطية والحكم الراشد انتقلت إلى نظام فاسد متعفن نتن بلا أخلاق ولا مبادئ، فقد جاءت المرحلة بأحزاب فالسة وبأناس لا ذمة ولا رجلة ولا وطنية لهم. أناس باعوا ضمائرهم فعاثوا فسادا في الجزائر. كل ما أنجزوه ظهر أنه غير صالح: من مشروع القرن الذي بدأ يتفتت في أجزاء كثيرة منه إلى المدرسة المنكوبة والملايير من الدولارات المهدورة وحدود الجزائر الملتهبة كلها والتي لم يعرف النظام السياسي كيف يصونها.