-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الجزائر – فرنسا : المصالحة المتعثرة

محمد السعيد
  • 7736
  • 5
الجزائر – فرنسا : المصالحة  المتعثرة

حدّد “إعلان الجزائر”، الذي صدر بمناسبة زيارة الرئيس الفرنسي جاك شيراك لبلادنا في مارس 2003، “إعداد وإنجاز معاهدة للصداقة” كهدف يكرّس إرادة البلدين في “تأسيس شراكة ذات طابع استثنائي ضمن احترام تاريخ وهويّة كل طرف”

  • ولكن هذا الهدف لم يضع في حسابه مقاومة شرائح واسعة من الرأي العام الوطني لسياسة طيّ الماضي بدون محاسبة، كما تجاهل راسموه الطاقة الضَرِرية لغلاة الاستعمار الذين مازال يراودهم الحنين إلى العودة إلى الجزائر أسياداً كما كانوا في زمن الغزو العسكري.
  •  
  •  إعلان  الجزائر :بين  الطموح  والواقع
  •  عندم أُذيع هذا الإعلان، كان الحديث يجري في كواليس الجمعيّة الوطنيّة الفرنسيّة عن إعداد مشروع قانون خاص “”تعترف بموجبه البرامج المدرسية بالدور الإيجابي للوجود الفرنسي في ما وراء البحر، وخاصة في شمال إفريقيا” (والمقصود أساسا هو الجزائر الّتي كانت مستعمرة استيطانيّة خلافا لتونس والمغرب الخاضعين لنظام الحماية)؛ وممّا يسترعي الانتباه أنّ هذا المشروع بادرت به الأغلبية البرلمانية الحاكمة، وسلّمته إلى مكتب المجلس في اليوم الذي تلى زيارة الرئيس شيراك، وظلّ محلّ أخذ وعطاء بين النوّاب طيلة عامين، إذ لم يُعرض على التّصويت إلاّ في 23 فيفري 2005، أي حين أوشكت المفاوضات حول معاهدة الصّداقة على النّهاية؛ ويمكن استجلاء دوافع هذه المبادرة البرلمانيّة بوضعها في السّباق المحموم لكسب أصوات الناخبين قبيل الانتخابات الرّئاسية 2007: فاليمين الحاكم أراد تتويج عمليّة إعادة الاعتبار للاستعمار على المستوى الوطني بتمجيد “إنجازاته الاقتصاديّة والعمرانيّة والثّقافيّة”، بينما انحصر عمل اليمين المتطرف المعارض في المستوى المحلّي، في إقامة نُصُب تذكارية لرموز منظمة الجيش السري الإجرامية الّتي قتلت المئات من الأبرياء من بينهم الكاتب مولود فرعون،  وغايته  إضعاف  موقف  خصمه  السياسي  باتّهامه  بالتخلّي  عن الجزائر  بدل  التمسّك  بها  مستعمرة  فرنسيّة  إلى  الأبد،  وتلك  ورقة  لا  يُستهان  بها  لأنّها  تمثّل  حوالي  18٪  من  أصوات  النّاخبين .
  •  فهل كانت بعثتنا الدبلوماسية في باريس على علم بالمشروع لإطلاع السلطة العليا عليه في الوقت المناسب حتّى تتّخذ منه موقفا قبل قدوم الضّيف، أم أنّ هذا الأخير تعمّد الإيعاز بتوقيت إخراج المشروع لاختبار حدود السياسة الجزائريّة الجديدة الّتي ظهرت ملامحها في بداية  العقد  بإحلال  بعض  المحرّمات  القائمة  منذ  الاستقلال  كالتّعامل الرّسمي  باللغة  الأجنبيّة  والتّلميح  إلى  الاستعداد  للتّّطبيع  مع  إسرائيل  وإنهاء  مقاطعة  اجتماعات  منظمة  الفراكوفونيّة  الّتي  تتزعّمها  فرنسا؟ 
  •   إنّ الغالب على الظنّ أنّ صاحب الخطّة أخطأ في التسديد عندما عنّ له أنّ أعباء الحياة اليوميّة تُنسي الشّعوب ويلات الاستعمار، وإذا به يكتشف مرّة أخرى حساسية الجزائريين لكل ما يتعلق بهذه المسألة وانعكس ذلك على عدم اتّفاق المحرّرين على كيفيّة صياغة رؤية موحّدة للحقبة الاستعماريّة في الإعلان ممّا اضطرّهم إلى البحث عن مخرج دبلوماسيّ لتلافي المأزق وهو تعويم الماضي المشترك في جمل عامّة: “إنّ فرنسا والجزائر تتحملان إذن كاملا إرث الماضي…” أو “متابعة عمل الذاكرة بين البلدين بروح الاحترام المتبادل لتاريخهما، وهويتهما ”  أو  هذه  الجملة : ” دون  نسيان  الماضي ” ؛
  •   ولعلّ الشّيء الإيجابي في هذا القانون، أنه أعاد طرح مسألة الذاكرة الجماعيّة كقضيّة حيّة لا تتأثر بتعاقب الأجيال والدّليل على ذلك أن ثلاثة أرباع سكان البلدين ولدوا بعد الاستقلال وبالتّالي لم يعيشوا المرحلة الأخيرة من الاحتلال إلاّ من خلال ما نُقل إليهم على  ما  فيه  من  انتقائيّة  وتضارب  في   الشّهادات  والرّوايات .
  •  
  •  المشكلة  فرنسية  – فرنسية :
  • لم يؤثّر عامل الزمن في حيوية الذّاكرة على ضفّتي البحر الأبيض المتوسّط: هنا في الجزائر ينعقد شبه إجماع وطني على تجريم الاستعمار حتّى لو كان ترسيمه تتحكّم فيه اعتبارات سياسية تصعيدا وتهدئة(2)، وهناك على الضفّة الأخرى، يرفض أغلب الفرنسييّن – على قدر ما تصدق عمليات سبر الآراء الدّوريّة – هذا الوصف لما يعتبرونه “ملحمة استعمارية تشهد عليها إنجازات صانعيها في العمران والتّعليم والصحّة…”، وينتقل هذا الرّفض إلى التيارين السياسيين البارزين، فيعارض أحدهما الاعتذار للجزائر (اليمين واليمين المتطرف والجيش)، ويدعو ثانيهما (اليسار من اشتراكييّن وشيوعييّن) إلى “الاعتراف بحقيقة الجرائم التي اقترفت أثناء الاحتلال 1830 – 1962″، دون استعمال مصطلح الاعتذار خلافا لما ورد على لسان السكرتير الأوّل السّابق للحزب الاشتراكي فرانسوا أولند في معرض تلميحه إلى قِصر نظر حزبه من حرب الجزائر :
  • ” مازال  علينا  أن  نعتذر  للشعب  الجزائري،  وينبغي  أن  نتصرّف  على  أن  ما  مضى  لن  يعود  أبدا “( 3 ) .
  • وبين هذين التيّارين الكبيرين تبرز ثلاثة نزعات، إحداها تقترح أن تصدر عن الدولة إشارات قويّة كوصف الجرائم الاستعمارية بالجرائم ضد الإنسانية دون أن يرقى ذلك إلى إعلان الاعتذار، في حين تفضل النزعة الثانية – من باب الحرص على استقلاليّة البحث العلمي – عدم إقحام السلطة السياسية في المسائل التاريخية وترك المهمة لأهل الاختصاص من المؤرخين؛ أمّا النزعة الثالثة فتقترح المساواة بين الضّحايا بتبادل الاعتذار بين الدّولتين فتعتذر فرنسا عن جرائمها ضدّ الشّعب الجزائري وتعتذر الجزائر لفرنسا عن المستوطنين الأوروبييّن الّذين قتلهم  جيش  التّحرير  الوطني .
  • واللاّفت للانتباه أنّ أحد النّائبين الاثنين المبادرين بالمشروع يحتلّ المنصب الثّاني في الحزب الحاكم آنذاك (اتحاد الأغلبية الرئاسية)، وهو فيليب دوست بلازي الّذي سيعيّن وزيرا للصحة، ثمّ يُرقَّى إلى منصب وزير الخارجية؛ وبصفته الأخيرة، كان المسئول عن الجانب الفرنسي، على إعداد معاهدة الصداقة؛ ومن الطبيعي أن يثير مثل هذا التعيين في حينه تساؤلات حول خلفياته: فهل أراد شيراك التهرّب من إشكاليّة الماضي مع الجزائر بالاحتماء وراء هذا المشروع؟ أم هل صدّق الشائعات التي راجت بإلحاح سنة 2003 حول نيّة قيادة الجيش عدم تجديد عهدة ثانية للرئيس المترشّح، وبالتّالي رأى من المناسب، أن يضع خليفته القادم أمام الأمر الواقع لمنعه من إعادة فتح ملفّ الاستعمار في الجزائر أو التّفكير في المطالبة بالتّعويضات عن جرائمه كما فعلت ليبيا مع إيطاليا وكان لها ما أرادت؟ وهل كان قصر الإليزي يراهن  على  حاجة الرّئيس  المترشح  إلى  دعمه  للتعويض  عن  تأييد  الجيش  له،  فيجرّه  إلى  التّوقيع  من  موقع  الضّعف  على  معاهدة  الصداقة  بالشروط  الفرنسيّة؟ .
  • ومهما  يكن  من  أمر،  فإنّ  الإصرار  على  عدم  الاعتذار  عن  الجرائم  الاستعماريّة  أكّد  عمق  اختلاف  الرّؤى  إلى  فترة  الاحتلال  وبالتالي  حال  دون  إبرام  معاهدة  الصّداقة  بعد  أن كان  قاب  قوسين  أو  أدنى .
  •  
  • محاولات  لتجاوز  عقبة  الماضي :
  •  اتُّخذت في عهد الرئيس شيراك، بمبادرة منه أو من حكومته اليسارية التي تعايش معها بزعامة جوسبان، عدة إجراءات تكميلية لخطوات سابقة لطيّ صفحة حرب الجزائر بدءاً بتنصيص اتفاقيات “إيفيان” على العفو، حتّى إعادة إدماج آخر الضبّاط المتمرّدين الذين قادوا منظمة الجيش السري  الإرهابية  في  مناصبهم  من  طرف  الرئيس  ميتران؛ وصحب  ذلك  تحديد  أيّام  للذاكرة  والذكرى،  وتأسيس  جمعيات،  ومتاحف  على  صلة  بحرب  الجزائر  في  جانبيها  الاجتماعي  والتّاريخي .
  • على أنّ هذه الصفحة من التّاريخ لم تكن لها الأولويّة في الجزائر في اهتمامات القيادة السياسية المنهمكة على تصفية آثار الحرب وبناء الدّولة العصريّة؛ وكان الرئيس الراحل هوّاري بومدين الذي لم تطأ قدماه أبدا التراب الفرنسي حتّى عندما اشتدّ عليه المرض، يرى أنّ “بحرا من الدّماء وجبالا من الشّهداء تفصلنا عن فرنسا، وبالرّغم من ذلك أعلنا أنّ الجزائر المستقلّة والشعب الجزائري لا يتطلّعان إلاّ إلى المستقبل”.(4) وإنّه لمن لئيم المكر أن يحاول البعض التقليل من هذه التضحية النادرة في العلاقات الدولية لأنّ بصمات الاستعمار لازالت مجسّمة في حجز أرشيف ذاكرتنا، وناطقة بالأضرار الجسدية المترتّبة على التجارب النووية التي أجرتها فرنسا في الصحراء، وملايين الألغام المزروعة على طول حدودنا الغربيّة والشّرقيّة، والتي مازالت تنفجر حتّى اليوم، لتزيد في قائمة ضحايا ثورة التحرير من المدنيين.
  • وكانت هذه الرّوح التّسامحيّة وراء إجراءات سياسية ذات دلالة قوية اتُخذت خلال العشرية الأخيرة تعبيرا عن الإرادة في إعطاء الأولويّة لإقامة تعاون يتطلع إلى المستقبل وترك مسألة الماضي جانبا إلى أن تكون الظّروف أكثر نضجا لإثارتها: تكثيف اللقاءات على مستوى القمة (أربعة لقاءات بين الرئيسين في ظرف ستة أشهر من أكتوبر 2002 إلى مارس 2003، تنظيم سنة الجزائر في فرنسا والمشاركة لأول مرة، في القمة الفرانكفونية ولو بصفة ملاحظ، وحضور رئيس الدولة إحياء الذكرى الستين للإنزال البحري الفرنسي في “بروفانس” أثناء الحرب العالمية  الثّانية،  وتنشيط  التعاون  الاقتصادي  الثنائي …
  •  
  • الواقع  والمستحيل :
  •  إذا كانت العلاقات الثنائية عادت إلى التحسّن في السنوات الخمس 2000 – 2005 بعد عشريّة من الشدّ والجذب، فإن الماضي كان حاضرا بكل ثقله وتبعاته، متحيّنا أدنى فرصة للقفز إلى الواجهة: فرئيس الدّولة، وبمناسبة زيارته إلى باريس في جوان 2000، بادر أمام المجلس الوطني الفرنسي وبصيغة التّعميم، إلى دعوة القوى الاستعمارية السّابقة للاعتذار، لأنّ دَينها المعنوي تجاه مستعمراتها “لا يُمحى بل ولا يسقط بالتقادم،” بينما تجنّب زميله الخوض في هذه المسألة أثناء زيارة الدولة التي أدّاها إلى الجزائر في مارس 2003 إذ لم يضمّن خطابه أمام  البرلمان  ما  يوحي  بأيّ  استعداد  لإدانة  الاستعمار  واكتفى  بجمل  عامة :” علينا  ألاّ  ننسى،  أو  نتنكّر  لهذا  الماضي  المعقّد  والذي  مازال  مؤلما ” ،  ولكن  كيف  ذلك؟  يجب : ” معرفة  كيفية  النظر  إليه  وجها  لوجه ” ،  وهنا  مربط  الفرس .
  • وهذا السّلوك يخالف ما سيُقدم عليه بعد عامين في مدغشقر لدى تطرّقه إلى عشرات الآلاف من المتظاهرين المطالبين بالاستقلال الذين قتلوا سنة 1947 في تلك الجزيرة، حيث اعتبر أنّ “الأعمال القمعية للنّظام الاستعماري غير مقبولة”؛ (5)
  •  ترك شيراك قصر الإليزي دون أن يحقّّق حلمه في إنهاء عهدته بإبرام معاهدة صداقة بين فرنسا والجزائر كما حصل مع ألمانيا في زمن الجنرال ديغول وأحال الملفّ إلى خليفته نيكولا ساركوزي الّذي ركّز حملته الانتخابية على رفض أي اعتذار؛ ولمّا تسلّم زمام الحكم استعجل “طيّ الصّفحة” لأن “المستقبل أهم”، وبدا أكثر استعدادا لإدانة الظّاهرة الاستعماريّة فاستعمل في خطابه في قسنطينة بتاريخ 5 ديسمبر 2007 لهجة جديدة غير معهودة حينما اعترف بـ”أنّ النظام الاستعماري فرض على الشعب الجزائري أكثر من مائة سنة من الظلم”، ويصف هذا النظام بـ”مشروع استعباد واستغلال”؛ ولكن لم يذهب بعيدا ربّما لحسابات داخلية لحزبه مّما جعله ينزع إلى دعوة الجانبين إلى “الاعتراف بالوقائع” لا إلى “التوبة التي هي عبارة دينية”، إنّ سرّ اعتماد هذه اللهجة ربّما يكمن في غياب علاقة مباشرة بينه وبين حرب الجزائر، فقد ولد ساركوزي بعد اندلاع هذه الحرب بسنة، بينما سلفه شارك فيها ضابطا في الجيش ثمّ موظّفا في قصر الحكومة، ولذلك، وأمام استحالة تقريب وجهات النّظر، فضّل أن تُتوّج زيارته باتفاقية شراكة متعددة القطاعات بدل معاهدة صداقة بين البلدين.(6) وتحلّ الوثيقة الجديدة محلّ اتّفاقيّة  1986  للتّعاون  الثّقافي  والفنّي  والعلمي  لكنّها  تتميّز  عنها  بكونها تغطّي  جميع  قطاعات  التّعاون  الثّنائي،  ما  عدا  المسائل  العسكريّة  والطّاقة  النّوويّة  التي  كانت  موضوع  اتفاق  منفصل  أبرم  لاحقا .
  • إن واقع الحال اليوم هو أنّ العلاقات الثنائية عادت إلى دائرة الفتور وانقطعت الزيارات الحكوميّة بين العاصمتين بل تحوّل الفتور إلى أزمة بصدور إجراءات عن الطرف الفرنسي شملت تسجيل بلادنا في القائمة السوداء للدول الأكثر خطرا في مجال النقل الجوّي وتلفيق تهمة ثبت بطلانها إلى إطار في وزارة الخارجيّة والتّلميح بتورّط الجيش في مقتل الرّهبان السّبعة في المديّة.. وبالمقابل، فسّرت باريس الجزائر الإجراءات الّتي اتّخذتها لحماية اقتصادها الوطني من انعكاسات الأزمة الماليّة العالميّة الأخيرة على أنّها مضرّة بمصالحها واستثماراتها. وأمام هذا الانسداد الّذي يضاف إليه عدم الاتّفاق في السياسة الخارجيّة إزاء قضايا حسّاسة كالصّحراء الغربيّة وحصار غزّة والتّعامل مع خطف الرّعايا، بُذلت محاولات لإعادة المياه إلى مجاريها أسفرت في مرحلة أولى عن مشاركة رئيس الدّولة البروتوكولية في قمّة نيس التي جمعت قادة إفريقيا بفرنسا في أوائل شهر جوان الماضي، والاتّفاق على إعادة النّظر في اتفاقية اليد العاملة 1968 ثمّ تبرئة ساحة الدبلوماسي الجزائري والعدول عن القائمة السّوداء، وأخيرا تعيين الوزير الأوّل الأسبق جان بيار رافارا ليتولّى من جانب بلاده ملفّ العلاقات مع الجزائر بمهمّة واحدة تضمّنتها رسالة التّكليف، وهي: “تحديد وإزالة العراقيل القائمة بين الجزائر وفرنسا في مجال استثماراتهما الاقتصاديّة”. والغاية من ذلك: “إبراز إرادة فرنسا في دعم وجودها في الجزائر بشكل ملموس”.
  •  
  • وماذا  نفعل  للمستقبل ؟
  • إنّ الرّوابط الجزائريّة الفرنسيّة تشابكت منذ الهجرة الاستعماريّة الأوربية باتجاه الجنوب في القرن التاسع عشر لغزو بلادنا وتحويلها إلى مستعمرة استيطانية، وحصول الهجرة المعاكسة من الجنوب باتجاه الشمال والتي فُرضت على الجزائريين في أوائل القرن الماضي، بفعل الفقر الناجم عن الاستيلاء على أراضيهم وتهجيرهم القسري والسّطو على مصادر قوتهم. وقد أدّى هذا التّشابك إلى تكوين جالية جزائريّة قوامها اليوم أكثر من مليون نسمة يعيشون في فرنسا وما يزيد منهم عن النّصف بقليل يحملون الجنسية المزدوجة؛ كما أن هناك ملايين من الفرنسيين لهم جذور في الجزائر إما بالولادة أو بالنسب ولا تكاد تخلو قرية أو مدينة من مقبرة لموتاهم، في حين يفوق عدد الناطقين بالفرنسية في بلادنا أضعاف العدد الذي كان عليه سنة الاستقلال (بينما 6٪ فقط من الألمان يتعلمون الفرنسية)؛.
  • أما الجانب الأساسي الآخر للعلاقة الثنائية، فيرتبط بالطريقة التي تمّ بها الانفصال بين البلدين، إذ كانت القطيعة عنيفة زرعت في نفس المواطن الجزائري شعورا بالحذر يجعله في حالة استنفار دائم مادامت الجراح لم تندمل بعد؛ ومن الخطأ اعتبار الاستعمار ظاهرة ولّت إلى غير رجعة ولن تعود أبدا، فدوافعها من حبّ السّيطرة والاستغلال لا تفارق الأقوياء، وأحدث مثال على ذلك ما حدث للعراق الشّقيق؛ قد يختلف الاستعمار في شكله تمشّيا مع تطوّر المجتمعات ولكن دوافعه ثابتة لا تتغيّر.
  •  ومن  هنا  يتحدّد  واجب  ترقية  علاقات  الدولة  الراهنة  إلى  مستوى  خصوصيتها  الّتي  تستمدّها  من  المحتوى  البشري  والحقبة  التّاريخيّة  المشتركة،  ويستلزم  ذلك  العمل  في  خمسة اتجاهات :
  • – التسليم  بأنّ  لكلّ  دولة  مصالح  وطنيّة  وإقليمية  تدافع  عنها  وأن  لا  تعاون  بدون  مصلحة  مشتركة . ففرنسا  هي  فرنسا  والجزائر  هي  الجزائر  وما  يجمع  بينهما  هو  المصلحة المشتركة .
  • – تكثيف المبادلات الإنسانية على جميع المستويات: الشبيبة، الجامعات، البحث العلمي، المنتخبون، المجتمع المدني، الإدارة المحلية… إنّ ثلاث حروب وقعت بين ألمانيا وفرنسا خلال سبعين سنة وضحاياها يعدّون بالملاييّن، ومع ذلك عضّ كلّ طرف على جراحه وآثر البحث في الماضي  عن  عوامل  الجمع  وترك  الأحقاد  والضّغائن  للتّاريخ .
  •  – إعطاء الأولوية للاقتصاد على السياسة لتسهيل حلّ المسائل السياسيّة المعقّدة، ويكون ذلك بخلق ترابط ملموس حول مصالح محسوسة، وتجنّب اللجوء الآلي إلى السلاح الاقتصادي كلّما اكفهرّت سماء العلاقات السياسية. إنّ فرنسا تحتل المرتبة الأولى في وارداتنا التجارية وتعدّ  الجزائر  شريكها  الأول  في  إفريقيا  وثالث  مزوّد  لها  بالغاز .
  •  – تمكين الجزائر من استعادة الأرشيف المغتصب لذاكرتها حتّى تسدّ الثغرات في تاريخها المعاصر والتاريخ وثائق قبل كل شيء؛ وإنه من الصعب أن يتصوّر إنسان عاقل قيام صداقة دائمة بين شريكين متساويين أحدهما يحتجز ذاكرة الآخر؛ صحيح أن جزءاً من محفوظات هذه الذاكرة أعيد  سنة  1975،  والجزء  اليسير  الآخر  سنة  2008  ولكنّه شيء  لا  يذكر  بالنسبة  لعشرات  الأطنان  التي  تمّ  تهريبها  إلى  فرنسا  عام  1962 .
  • – احترام الدّور الجزائري في أي مشروع جهوي أو متوسطي؛ إن الجزائر ليست فقط سوقا للبيع وفرصا للاستثمار أو برميل نفط؛ إنّها قوة إقليميّة لها دور تلعبه ومطامح سياسية بحجم مساحتها وخيراتها وعمق مجالها التّاريخي؛ ومن ينكر هذه الحقيقة ينكر مكانة العوامل الجيوستراتيجية  في  حياة  الدول .
  •   إنّ تاريخ الاستعمار الفرنسي للجزائر لايزال مطروحا بشحنة عاطفية، تجعل منه مادّة صعبة التأْريخ؛ ومع ذلك، فإنّ استخلاص العبر منه لإبراز ثمن الاستقلال لا لزرع الأحقاد، أصبح أكثر من ضرورة، ونحن نرى كيف أن العولمة تنزع إلى محو الفوارق لتذويب الهويّات. ولكن علينا أن نخرج من المجابهة وجها لوجه مع فرنسا لأن الاستعمار لم يقتصر على بلادنا، بل رزحت تحت نيره أغلب شعوب النصف الجنوبي من الكرة الأرضيّة ولم يكن بالجنسيّة الفرنسيّة فقط، فلماذا لا تُحشد دولها لتشكيل جبهة تكون قادرة على استصدار قرار من منظّمة الأمم المتّحدة باعتبار الاستعمار جريمة ضدّ الإنسانية، كما حدث مع الاسترقاق وتجارة السّود وقبلها مع الصّهيونيةّ الّتي اعتبرت شكلا من أشكال العنصريّة؟ وعلى كلّ حال، من الخطإ أن نتوقّف عند هذه المسألة ونغلق باب التّعاون، لأنّنا مازلنا نتخبّط في دائرة التخلّف ولا غنى لنا عن الدّول الصناعية للأخذ بأسباب تقدّمها، بل يمكن بالتعاون مع الديمقراطيين الفرنسيين الحاملين لمبادئ ثورة 1789 والّذين وقفوا معنا أثناء حربنا التّحريريّة، أن نحوّل الماضي المتنازَع عليه إلى أداة لتخصيب المستقبل المشترك؛
  •  – إنّ المواطن الجزائري يريد أن يبني بلاده حتّى تكون قويّة مهابة الجانب تستعصي على الطّامعين الّذين يتربّصون بالضّعفاء، ويريد في هذه المعركة أن يطمئنّ إلى أن شريكه الفرنسي لم يعد بذات الذهنية التي كان عليها أسلافه أثناء الغزو وطيلة فترة الاحتلال؛ وإذا استوعب الشريك هذه الرّسالة فإنّه سيدرك بأنّ التعاون الّذي تصبو إليه الشّعوب يتنافى في كلّ الحالات مع بقايا ذهنية مازالت في عصر حقوق الإنسان والحريّات، تُصرّ على إيجاد جوانب إيجابية لنظام استعماري كان من أسود الصّفحات في تاريخ البشريّة. (انتهى).
  • ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
  •  المراجع :
  • 1)  ألغى  المجلس  الدستوري  في  جانفيي  2006  المادّة  الرابعة  من  هذا  القانون  الّذي  وصفته  جريدة  يساريّة  فرنسيّة  بـ ” أقبح  قانون  تمّ  التصويت  عليه  في  فرنسا  منذ  عهد  فيشي “. 
  • 2) والدّليل  على  ذلك  مشروع  قانون  تجريم  الاستعمار  المطروح  على  المجلس  الشّعبي  الوطني  في  شكل  مبادرة  برلمانيّة  
  •  3) F . Hollande : Devoirs  de  vérité , Ed / Stock  Paris  2006 , p . 22
  • 4)  خطاب  تبسّة  في  25  سبتمبر  1973 .
  • 5) وعقّب عليه الرئيس الملغاشي بقوله: “كلّ هذا ماضٍٍ مضى، فأنا أتطلع إلى المستقبل… لقد وُلدت في 1949، وليس في سنة 1947. نعم لا نستطيع نسيان ما حدث، ولكن أفكّر قبل كلّ شيء في مصلحة الأجيال القادمة”.
  • 6 )  وصف  مقرّر  لجنة  الشّؤون  الخارجيّة  في  الجمعيّة  الوطنيّة  الفرنسيّة  هذه  الاتفاقيّة  بكونها  ” أقلّ  من  معاهدة  صّداقة  وأكثر  من  مجرّد  اتّفاقيّة  تعاون
  • طالع أيضا

  • الحلقة الأولى
  • الحلقة الثانية
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
5
  • الحسن76

    نشكر الأستاذ على إفادتنا بمعطيات وحيثيات موضوع جد حساس وبشكل موضوعي وجاد لدى فنحن نتفق معه في عدد من النقاط لكن بالنظر للترويع والترهيب الذي مورس على هذا الشعب وغزارة الدماء المسفوكة حينها و النهب وإستنزاف الثروات لا يمكن تناسيه ولا يجوز طمسه لكن سيبقى في تاريخ الأمة نستنير به لبناء مستقبل هذا الوطن الغالي الذي حباه الله تعالى بكل الخيرات والنعم إلا من النية الصالحة والرأي السديد لطغمة فاسدة لم تقدر مقدرات هذا الشعب حق تقديرها فلا شطحاتها السياسية ولا تخبطها العشوائي في الشأن الاقتصادي سيجنبها أخذ مكانة في مزبلة تاريخ هذه الأمة وأنا مع قول الشاعر "نعيب الزمان وما للزمان عيب سوانا..."

  • الحسن76

    نشكر الأستاذ على إفادتنا بمعطيات وحيثيات موضوع جد حساس وبشكل موضوعي وجاد لدى فنحن نتفق معه في عدد من النقاط لكن بالنظر للترويع والترهيب الذي مورس على هذا الشعب وغزارة الدماء المسفوكة حينها و النهب وإستنزاف الثروات لا يمكن تناسيه ولا يجوز طمسه لكن سيبقى في تاريخ الأمة نستنير به لبناء مستقبل هذا الوطن الغالي الذي حباه الله تعالى بكل الخيرات والنعم إلا من النية الصالحة والرأي السديد لطغمة فاسدة لم تقدر مقدرات هذا الشعب حق تقديرها فلا شطحاتها السياسية ولا تخبطها العشوائي في الشأن الاقتصادي سيجنبها أخذ مكانة في مزبلة تاريخ هذه الأمة وأنا مع قول الشاعر "نعيب الزمان وما للزمان عيب سوانا..."

  • فتحي

    تحيا الجزاير و الله يرحم الشهدا

  • هريمك محمد

    شكرا لك على اسهاماتك في الصحافة الوطنية فيما يخص العلاقات الفرنسية الجزائرية نحن بحاجة الى تغليب لغة المنط و المصالح فيما يخص علاقتنا بفونسا التي تميزت دائما بالتوتر و بالإرث التاريخي الذي تركه المستعمر و الذي لا زالت انعكاساته في العلاقات بين البلدين قائمة

  • بومدين

    اشكرك سيدي الكريم على هذا المقال القيم ولقد تابعت الحلقات الثلاث بعناية وادركت هذه الرؤية الجديدة التي تريدها لتأسيس علاقات جديدة سيكون لهل انعكاس على وضعنا الداخلي ناهيك على القوة و المناعة التي ستطبع حضورنا الخارجي اذا ماإستطعنا ان نحقق هذا التوازن وفق هذة المرجعية التي لاتفرط في الثوابت ولاتتبلد عن المستقبل.