الرأي

الجزائر من الأزمة.. إلى الحل

هل الجزائر في أزمة؟ أقول ودون تردد ولا تجميل، نعم إن الجزائر في أزمة حقيقية يجب عدم إغفالها ولا الاستخفاف بها ولا إنكارها.. إذ لا يفيد الإنكار.. لأنه كما يقول المثل من أنكر داءَه قتله.

عندما نشرع في تحول ديمقراطي منذ دستور 1989، وإلى الآن لا يزال متعثرا ولم يكتمل.. ألا يعني هذا أننا في أزمة!؟

وعندما ننظم الانتخابات تلو الانتخابات منذ 28 سنة، ولا شيء يتغير إلا التراجع المستمر في نسبة المشاركة الشعبية.. ألا يعني هذا أننا في أزمة!؟

وعندما تتوفر الحكومة على أموال كبيرة غير مسبوقة ونعجز عن تحويلها إلى تنمية.. ألا يعني هذا أننا في أزمة!؟

وعندما تُصرف مئات الملايير من الدولارات على البرامج والمشاريع، وتبقى الجزائر تحتلُّ آخر المراتب في كل التصنيفات العالمية المتعلقة بالتنمية.. ألا يعني هذا أننا في أزمة!؟

وعندما يفضِّل أغلب شبابنا الهروب من البلاد رغم كل ما أنجز، ورغم الوعد والوعيد.. ألا يعني هذا أننا في أزمة!؟

وعندما تشرع الحكومة في محاربة الفساد وتشكِّل هيئة مكلفة بذلك، والفساد يزيد ولا ينقص، إلى درجة أن الجزائر انتقلت عالميا من المرتبة 88 في 2015 إلى 108 في 2016 وإلى 112 في 2017 في مؤشر الفساد.. ألا يعني هذا أننا في أزمة!؟ 

ليس من علامات الصحة إنكار المرض، بل من شروط الصحة الاعتراف بالمرض، والتوجه إلى الفحص الدقيق، ثم القبول بتوصيف الطبيب، وإتباع وصفة الدواء.

وعندما نقول إن فلاناً مريض، فهذا لا يعني بالضرورة أن مرضه قاتلٌ أو مزمن لا يُرجى منه شفاء.. وهكذا فعندما نقول إن الجزائر في أزمة فليس معناه بالضرورة أنها أزمة مستعصية عن الحل لا مخرج منها ولا فرج، أو أن كل الأوضاع سيئة ولاشيء إيجابي، أو أننا ننكر ما أنجز وما بُني، بل إن كل ذلك لا يُنكَر ولكنه في نفس الوقت لا يمكنه أن يحجب الرؤية عن حقيقة الأوضاع وبواطن المظاهر وعن واقع الجزائر العميقة..

ما هي حقيقة الأزمة؟

لن أشير هنا إلى الأزمات القطاعية ولا إلى المطالب الفئوية ولا إلى ما يظهر من مشاكل على السطح وتتناوله وسائل الإعلام يوميا.. فكل ذلك مقدور عليه وبعضه قد يكون من طبيعة تسيير الشأن العام.. وقد تواجهه كل الحكومات وجميع الدول.. بل سأشير بإيجاز إلى عمق الأزمة لا إلى ظواهرها، والى أصولها لا إلى فروعها..

 

الحل لا يمكن أن يكون بزحزحة النظام ومجيء المعارضة، ولا بفرض رؤية النظام على المعارضة، ولا بتوافق المعارضة وحدها في ظل المعطيات الواقعية عن قوة وإمكانيات المعارضة والحالة العامة للشعب، بل الحل لن يأتي فيما أرى إلا بالتوافق بين جميع الأطراف. 

1-    أزمة شعب: الشعب الجزائري في أزمة حقيقية، تتمثل أساسا  في الحالة العامة من القلق وعدم الرضا التي يعيشها الجزائريون؛ قلقٌ من الأوضاع وعدم الرضا على المعيشة وتخوُّف من المستقبل، ويستوي في هذا الذي يعلم والذي لا يعلم، المسؤول والمواطن، الغني والفقير، النخبة والعامة، المحزب وغير المحزب، الشيوخ والشباب… حالة تجدها في المدن كما تجدها في القرى.. تراها معلنا عنها أحيانا ومسكوتا عنها أحيانا أخرى… حالة لا تُحل بحلول مجزأة أو ترقيعات سطحية، ولا بإجراءات شكلية وخطابات رنَّانة، ولا بوعود وهمية وتعليمات صارمة.. حالة تحتاج إلى دقة تشخيص وعمق تحليل وصراحة تصريح وشجاعة الحل.

2- أزمة نظام: عمق أزمة النظام ليس في ضعف الموارد المالية، ولا في بطء النمو الاقتصادي، ولا في عجز الميزانية والميزان التجاري، ولا في عدم تلبيته لمطالب المضربين وحله لمشاكل المحتجِّين، بل تتمثل في عدم قدرة النظام على صناعة الأمل للناس في حاضر الجزائر ومستقبلها وقدرتها على تجاوز هذه المرحلة بنجاح. لقد وصلت هذه الحالة بالمواطنين إلى درجة الهروب السياسي بالامتناع عن المشاركة في الانتخابات والعملية السياسية، والهروب الاجتماعي بفقدان الثقة في الدولة والاعتماد على النفس.. والهروب الجغرافي بالهجرة غير الشرعية لمن استطاع إليها سبيلا..

بمقدور الحكومة أن تقدِّم حلولا جزئية لبعض الأزمات، فتوجِد حلا لمشكلة السكن أو مشكلة ارتفاع الأسعار أو مشكلة البطالة، وتسطِّر برنامجا وتحدد ميزانيات.. ولكن ذلك كله لن يُخرج البلاد من الأزمة، لأنها أعمق من ذلك.. فلقد توفرت لدى الحكومة أموالٌ طائلة من جراء ارتفاع أسعار البترول في السنوات الماضية إلى مستويات قياسية تجاوزت (140 دولارا للبرميل)، كما تراجعت البطالة إلى اقل من 10٪، أحسن من بعض دول أوروبا مثل اسبانيا والبرتغال، بل وصلت إلى مستويات فرنسا وإيطاليا.. وبنت عددا ضخما من السكنات بمختلف الصيغ.. ويمكن أن نسرد أمثلة كثيرة للتدليل على هذا الرأي.. ولكن الجزائر رغم كل ذلك انغرست أكثر فأكثر في وحل الأزمة فابتعدت أكثر فأكثر عن الحل.

3- أزمة معارضة:  لستُ ممن يُلقي باللائمة على السلطة ويبرِّئ البقية من المسؤولية، فالمعارضة هي أيضا تتحمل المسؤولية، فهي أيضا في أزمة.. ولا أتحدث هنا عن أزماتها الداخلية، بل أقصد أزمتها في القيام بوظيفتها ودورها الذي من أجله وُجدت.. فهي مسؤولة عن حل أزمة الشعب مثلها مثل النظام.

صحيح أن المعارضة ليست مسؤولة عن ارتفاع أسعار السلع والخدمات، وتدهور القدرة الشرائية للمواطن، ولا هي مسؤولة عن تراجع الموارد المالية للدولة وانخفاض مؤشِّرات الاقتصاد الوطني، ولا هي مسؤولة عن تأخُّر منظومة التربية وعجز المنظومة الصحية، ولا هي مسؤولة عن انتشار الجريمة وتغوُّل الفساد، ولا هي مسؤولة عن تزوير الانتخابات وتزييف الديمقراطية… ولكنها مسؤولة بلا شك عن إيجاد حل عملي يعيد الأمل للشعب لا أن تزيد من تيئيسه وتأزيمه.

وتتمثل أساسا أزمة المعارضة في عدم نجاحها في تقديم بديل عن النظام، وليس المقصود بالبديل وثيقةً تُكتب أو خطبة تُلقى أو هيئة تُشكَّل أو اجتماعاً ينتظم، بل المقصود حالة عملية تحمل رؤية يلتفُّ حولها الشعب.. وربما أبلغ مثال عن ذلك هو امتناع الشعب عن المشاركة في الانتخابات، فالنظام أكيد هو المسؤول عن ذلك باستمراره في إفراغها من محتواها التنافسي ومضمونها التداولي وتزييف إرادة الشعب وتزوير أصوات الناخبين.. ولكن المعارضة لم تقدر على إقناع الشعب التوَّاق إلى التغيير والإصلاح بضرورة المشاركة السياسية وحماية خياراته وفرض نزاهة الانتخابات والانتصار للديمقراطية، ولا هي استطاعت تحريك هذه الإرادات الشعبية الممتنعة عن الانتخابات في اتجاهات سلمية أخرى للحل.

ما الحل؟

الأزمة عميقة ولكنها ليست مستعصية.. والحل ممكن .. ولكن ما هو؟ وأين هو؟

إذا فهمنا حقيقة الأزمة فإننا ندرك بسهولة أن الحل لا يمكن أن يكون بزحزحة النظام ومجيء المعارضة، ولا بفرض رؤية النظام على المعارضة، ولا بتوافق المعارضة وحدها في ظل المعطيات الواقعية عن قوة وإمكانيات المعارضة والحالة العامة للشعب، بل الحل لن يأتي فيما أرى إلا بالتوافق بين جميع الأطراف.

إن الذين يعلقون آمالا كبيرة على الرئاسيات كحل للأزمة.. هم واهمون برغم أهميتها وضرورتها في الحالة الديمقراطية، ولكن تنظيمها بنفس المنظومة القانونية وفي ذات السياق السياسي وفي ظل الحالة الشعبية القائمة لن يكون حلا.. بل إجراء روتينيا رسميا لاستمرار الوضع على ما هو عليه حتى وإن تم تغيير الأشخاص.

إذن الحل المنشود  لن يأتي من السلطة فقط ولا من المعارضة فقط.. بل إن الحل يكمن في التوافق الوطني الذي يجمع جميع الأطراف، الشركاء السياسيون والاجتماعيون والاقتصاديون عبر حوار مسؤول وشامل ومُلزِم.. وينتهي إلى أرضية توافق في إطار عهدة رئاسية توافقية تؤسس للمرحلة المقبلة.

ولا أريد هنا التفصيل نظريا في بنود وإجراءات الحل التوافقي، لأنه متروكٌ للحوار ولأطرافه يصيغونها وفقا لما ينتهون إليه.. وذلك هو المغزى الحقيقي لمعنى التوافق الوطني وقوَّته على حل أزمة البلاد.

مقالات ذات صلة