-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الجزائر.. موعدٌ قريب مع الثأر الحضاري

بقلم: الأستاذ رضا بلحاج
  • 950
  • 0
الجزائر.. موعدٌ قريب مع الثأر الحضاري

المطلوب المحمود عادة أن تبدأ مقالك بالعرض القائم على الحِجاج والاستناد العقلي لتحقيق جدارة الموضوعية والحياد، فالعواطف دوما

-عكس العقل- مَقيسة وليست مقياسا، أي تابعة وملحقة، لكني في هذا المقال سأخالف هذا المطلوب المتوقّع عامدا متعمّدا، وأبدأ بعاطفة معلَنة أتعمّدها كثيفة صريحة لأنّ الموضوع يتعلّق بالجزائر وحبّي للجزائر ومكانة الجزائر الرّائدة في الوجود والوجدان بالفعل أو بالقوّة وفي الراهن أو القادم. هذا الحبّ وهذه المكانة تتجاوز طور إقامة البرهان إلى طور البداهة. والبداهة مرتبة تسبق الفكر وتتفوّق عليه، فالفكر وبراهينه يقرّ دوما بهامش خطإ وإمكانية مُراجعة، أمّا البداهة فهي أول الفكر ويحتاجها أصلا ليكون فكرا.

الجزائر تمتنع وتقاوم برمزية عالية مشروعا استكباريا استعماريا يريد لهذه الأمة إتمام السقوط وإعلان الهزيمة النهائية من خلال رضوخ الجزائر وما أدراك ما الجزائر للمشروع الصهيوني لتضاف إلى هزيمة الحاضر هزيمة الحضارة ولتشمل الهزيمة المركز بعد الأطراف، والأمل كل الأمل والثقة كل الثقة أن الجزائر لن تسقط ولن ترضخ والوقائع شاهدة.

إذن البداهة عندي في موضوع الحال أنّ الجزائر وبلا جدال ولا منازعة هي مكسبٌ مهيب ومذخور استراتيجي للأمة وجغرافيتها وتاريخها الماضي والمستقبلي، وأهل الجزائر بما هم شعب وأمّة فيهم حيويّة الجهد وفيهم خاصّة وجدان المقاومة والعناد في الحق وأوّل عناد الجزائر هويّتها ونفتخر أنه قائمٌ بل ودائم يُطمْئنُ كل مُتوجِّسٍ من مستقبل غامض ذي متاهة لهذه الأمّة لا قدّر الله، فسيرة تحرير البلاد من الاستعمار بما فيها من بطولات وتضحيات يُضرَب بها المثال، واستقلال الجزائر الذي كان بالمغالبة لا بالمهادنة. كلّ هذا انبثق منه وجدانُ عِزّة ونخوة قلّ نظيره وأفتخر أن أكون من صلبه لا بحكم الجوار أو التقارب بل بحكم الانتماء الفعلي الواقعي.

هذا المضمون الواقعي وهذا المُطَمْئِن المستقبلي هو الذي أكسب الجزائرَ رمزيّةً كثيفة عالية، والرمزيّة في ذمّة الشعوب والأمم مَذْخُور استراتيجي لا يعادَل بثمن، وهي حافزٌ حادّ يسهّل تذكّر الواجب واستحضار لوازمه. تذكّر فريضة الوقت بماهي استئناف مَجدٍ، أو استعادة أو تصحيح وضع أو تجديد عهد.. أي أنّ هذه الرمزية فيها طاقة وجاذبية لا تنفكّ تذكّر بشرف الأصل في مقابل مَهانة مخالفته فضلا عن مغادرته.

هذا الوجدانُ المطمئن يسكن فيَّ كلّ مسكن ويعطيني موعدا مع يوم ما تُقْدِمُ فيه الجزائر لا على التميّز فذلك من تحصيل حاصل، بل على قيادة العالم العربي وإفريقيا، وأيُّ مفكّرٍ استراتيجي نابهٍ أو يشتغل على رؤية مستقبلية للعالم عدوًّا كان أو صديقا يدرك قدرة الجزائر على شرف هذه المرتبة والقدرة على إدارة معركتها الكبرى ولو بعد حين، لذلك بقدر تفاؤل أبناء الأمّة الذين يتمتعون بذكاء تاريخي يوجد مكرٌ كُبار من دوائر صنع القرار أو التخطيط له في الغرب ولا سيما الدوائر الصهيونية ضد الجزائر.

الجزائر ظلّت دائما في تصوّري وخاصة في مساكن وجداني بلدا يحتفظ بحقّه في «الثأر الحضاري» من استعمار إجرامي بغيض ضديد للحياة والانسان وثأر من حاضر عربي اسلامي غُلبت فيه الأمّة على أمرها متدحرجة فيه من مرتبة العنفوان والمجد إلى مرتبة التدهور والمذلّة.

هذا الثّأر الحضاري يسكنني كلّ مَسكن لذلك، فالجزائر عندي التي تستبطن هذا الثأر كرامة وشرفا هي حالة وجدانية فذّة وموعد مع احتفال مُؤجّل التنفيذ، ولكن رغم تأجّله فإني أتوقعه كل حين سنّة من سنن التاريخ.

قد يسأل سائلٌ: وأين المعقول وأين الدليل والبرهان فيما تقول؟ أليس الأمر محض عاطفة ووجدان وبعض الوجدان خيالٌ أو وَهْم؟

البرهان الأوّل: ما تفعله الجزائر اليوم بأثر واقعي مقترن بأثر رمزي؛ فالجزائر تمتنع وتقاوم برمزية عالية مشروعا استكباريا استعماريا يريد لهذه الأمة إتمام السقوط وإعلان الهزيمة النهائية من خلال رضوخ الجزائر وما أدراك ما الجزائر للمشروع الصهيوني لتضاف إلى هزيمة الحاضر هزيمة الحضارة ولتشمل الهزيمة المركز بعد الأطراف، والأمل كل الأمل والثقة كل الثقة أن الجزائر لن تسقط ولن ترضخ والوقائع شاهدة.

البرهان الثاني: على قدرة الجزائر أنها بمخزونها الكفاحي النضالي الجهادي الذي أعطى الجزائرَ عنوانها أنها ليست فقط في عيون الأمة تحت النظر بل والانتظار لموعد حضاري كبير، وأمارة ذلك أنها ترفض طيَّ ملف الاستعمار الفرنسي وتعتبره ملفا سياسيّا إذ هو تاريخي فنراها في كل مرة تلوح بنوع من الثأر فتطالب بالأرشيف وما يتبع ذلك وتؤكد كل مرة عزمها على التخلص من هيمنة اللغة الفرنسية في التعليم والخطاب، ودلالة هذه الواقعية والرمزية هي نقل وجدان الثأر من جيل الى جيل وتأكيد أن الشهداء أحياء في عالم الغيب عند ربهم يرزقون وفي عالم الشهادة عند أبنائهم يُذْكرون.

البرهان الثالث على واقعية الأمل في قدرة الجزائر وأنَّ النصر كامنٌ فيها مندسّ في جهازها العصبي هو تأمين مجال حيوي في إفريقيا للجزائر لا تكون فيه بؤر تآمر مطمئنة تتمادى في الاستعمار بعناوين مخادعة وهذا ما تفعله في «مالي» اذ تساند انتفاضتها الذكية المفاجئة ضد الوجود الفرنسي الذي يستلبه الشعوب ولم يعترف بعدُ حتى بالفارق الزمني بين ممكن الأمس وممكن اليوم، والمؤشر الأخير الدال على أن جزائر الحاضر حبلى بجزائر الحضارة هو انتباهها للوضع في تونس التي يراد لها أن تبلغ درجة الخصاصة ومن ثمّ التبعية أو بالأقل يراد تخصيب التناقضات فيها حتى تولّد ثغرات اختراق غربي استعماري صهيوني في سياق مشروع ماكر دائب للتفرّد بالجزائر والانتقام من فائض كرامتها عبر فتنة كبرى يختلط فيها العسكري بالسياسي بالشعبي .

في زمن الرداءة هذا الذي تناوبت فيه عناوين النكبة والنكسة والسقوط يكفيني «الأقل المضمون» الدال بمؤشر واقعي ومؤشر رمزي عال أجده في الجزائر.. يكفيني حتى الانخراط في مساحة أمل واقعي لثأر حضاري يشفي الصدور. لكن رغم أن كثيرا من المؤشرات تدل على هذا المنعرج التاريخي، والتاريخ يدبّ فينا ومن خلالنا دبيب النّمل ولكن أثره حاسم قاطع كالسيف.

رغم هذه المؤشرات ورغم أهمية التاريخ ومواعيده فإننا لا نكاد نلاحظ عند المثقفين والنُّخب التي هي مظنّة الوعي المبكّر والقدرة على الاستشراف بالتوقّع والتوقّي ما يدل على ذكاء تاريخي ينتهز الفرصة ويخصّها ويدعّمها ليصبح سياقها واقعا كاسحا عصيّا على التراجع الذاتي أو الاكتساح الخارجي وتحويل الوجهة.. ففي تونس وفي الجزائر لايعيش المثقفون والنّخب حَراكا باتجاه التنسيق الذي يحرج السياسيين ويسبقهم باتجاه مستقبل شبه وحدوي بين تونس والجزائر. هذا الحراك الثقافي المتبادل بين البلدين بتلقائية التونسي والجزائري، هي تلقائية والحمد لله منزوعة من وساوس الشيطان.. هو حَراك مطلوب طلبا حثيثا، يجب أن يلتقي فيه الرسميُّ بشبه الرسميِّ، علما وأنه حَراكٌ لن يبدأ من الصفر ولن يصطنع المنطلقات والأسباب الموجبة لهذا التنسيق بأفُق وحدوي لأن العقلية والنفسية في تونس والجزائر مشبّعة بمشترك مبدئي ومشترك تاريخي تحتويه مكتبة مليونية ووجدان فوق حزبي وفوق طائفي وفوق مذهبيّ والخاصّ فيه لا يلغي العامّ بل يُغنيه؛ أي إنه تيّار الأمّة الطّبيعي، والطبيعي لا يحتاج إلى اصطناع.

في كلمة، مكانة الجزائر وحبّي لها كما قلت في مرتبة البداهة التي تساوي الفطرة وتناسبها.. لكني مثقّف يكابد هذا الوجدان أملا وقلقا حتى يزكّيه الواقع ويؤكّده حين تساوي الجزائر نفسها بإعمال القائم والكامن فيها أي حين تفعّل كل امكاناتها القيادية فتكون فعليّا وواقعيّا وحسيّا الرائد القائد الإفريقي العربي عن جدارة وحين تكون مع تونس نواة صلبة ذكية ولا سيما أن الله قد أذن للتاريخ أن ينعرج وقد انعرج فعلا والمبشّر أن في الجزائر بداية وعي استراتيجي ومحاولة رسم خريطة أسباب.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!