-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الجهاد والأركان الخمسة!

التهامي مجوري
  • 503
  • 0
الجهاد والأركان الخمسة!

كتب الأخ الفاضل سلطان بركاني مقالا ونشر بـ”الشروق” تحت هذا العنوان “الركن السادس في الإسلام”، وانتصر لقول القائلين إن الجهاد هو الركن السادس في الإسلام، وقد أفاد وأجاد في التذكير بهذه الفريضة التي قال عنها علَّامة الجزائر الشيخ محمد البشير الإبراهيمي: “لم تبتذل كلمة عربية مثل ما ابتذلت كلمة “الجهاد” على ألسنة هذا الجيل في الشرق الإسلامي –مارس 1954- فلعلّها أصبحت أكثر الكلمات دورانًا على الألسنة، وسيرورة في الأفواه، ووصفًا بها لكل غاد ورائح، ومع هذا الدوران الكثير لا توجد كلمة أفرغ من معناها منها.

والكلمات الفارغة من المعاني كالأجساد الفارغة من الأرواح: تلك كلمات ميتة وهذه أجساد ميتة، وما كانت الأجساد نافعة إلا بالأرواح، ولا تكون الكلمات صادقة إلا بتحقيق معانيها في الخارج، والأرواح في الأجساد، والمعاني للألفاظ هما معنى الحياة وما تستتبعه من آثار” [آثار 4/305 ].

وغيرة الأخ بركاني التي ظهرت في المقال لا شك أنها تصبّ في هذا المصب الذي أراد الشيخ الابراهيمي التنبيه إليه، ولكن أهمية الجهاد هذه ومكانته في المنظومة الإسلامية، لا يمكن أن تكون في مستوى الشهاديتن والصلاة وغيرهما من الأركان المعروفة، لما بينه وبين الأركان الخمسة من فروق تعبدية وفروق في مكانة كل منهم في منظومة الإسلام الفكرية.

ولذلك بعد قراءتي للموضوع رأيت من الضروري توضيح بعض المسائل التي لها علاقة به، وعلى رأس هذه المسائل مصطلحي: الركن والجهاد.

فقائمة الممصطلحات الفقهية كثيرة، ولكل مصطلح وضع له العلماء مضامينه الخاصة به، إذ يمكن أن تكون هناك مشتركاتٌ بين المصطلحات، ولكنها مختلفة في مضامينها، ومن ثمّ تكون مختلفة في المكانة، وكل إهمال لمضمون أو تجاهل لهذه المصطحات، يؤدي حتما إلى اختلال في ما يُفهم من مقاصد الشرع وتطبيقات نصوصه.

والواجبات عند الفقهاء كثيرة جدا، فمنها ما هو مطلوب لذاته، من حيث هو قربة لله تعالى، مثل الصلاة والصيام والصدق والعدل وطاعة الوالدين… ومنها مايُطلب فعله لذاته ولكونه من مكونات الفعل نفسه وهذا يسمى ركن، ومنه ما يُطلب لعلاقته بفعل آخر منفصلا عنه، ويسمى السبب. وجميع هذه القضايا واجبات ولكن لكل حالة منها صورتها المختلفة عن الأخرى.

والواجب هو كل فعل مطلوب لذاته، وهو الفعل المأمور به والمطلوب إقامته لزوما حتميا، فيُؤجَر المرء على فعله ويعاقب على تركه، وهو أنواع، منه ما هو واجب عيني، وهو الفعل الذي يجب على كل فرد القيام به ينفسه، ومنه ما هو كفائي، إذا قام به البعض سقط عن الباقين من المكلفين، وهناك تفاصيل أخرى لا نثقل بها المقال الآن.

أما الركن فهو نوعٌ من أنواع الواجبات، مطلوب القيام به، ولكنه إضافة إلى كونه مطلوبا لذاته هو من مكوِّنات الفعل نفسه، فهو واجب ولكنه جزء ومكوِّن من مكونات الفعل، إذ لا يُتصور الفعل بدونه، ولذلك عرّفه الأصوليون بقولهم “هو ما يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم داخل الفعل”، أي هو الواجب الذي لا يصح الفعل بدونه، ولكن هذا الواجب يكون من داخل الفعل، مثل الركوع في الصلاة، فهو واجب، ولكنه ليس واجبا مستقلا، وإنما هو واجب من مكونات الواجب.

والسبب هو نوع آخر من أنواع الواجبات يشبه الركن، من حيث هو مطوب لعلاقته بغيره من الأفعال التي لا تصحّ إلا به، ولكنه يكون من خارج الفعل الذي له علاقة به، مثل الطهارة في علاقتها بالصلاة، فهي واجب لها علاقة بواجب إقامة الصلاة ولا تصحّ إلا بها، فالصلاة لا تصح إلا بالطهارة، وهما منفصلان عن بعضهما.

وفي ضوء هذه الفروق المنهجية يمكن فهمُ ما اصطلح على تسميته بأركان الإسلام الخمسة، التي هي الشهادتان والصلاة والصيام والزكاة والحج، وهي أركان لأنها مطلوبة لذاتها وفي الوقت ذاته لا يصحُّ إسلام المرء إلا بها، فهي واجباتٌ ولكنها من داخل منظومة الإسلام الكلية وغير منفصلة عنها، ولذلك اعتبر من أنكر واحدا من هذه الأركان مرتدا، لما بين هذه الأركان والإيمان بالله واليوم الآخر من ارتباط عضوي.

وهنا نعود إلى موضوع الأخ بركاني ونتساءل معا: هل الجهاد ركن، بحيث ينزل منزلة الأركان الخمسة؟ لا أعتقد ذلك للأسباب التالية:

أولا: لأن الجهاد إذا أطلِق يُقصد به القتال في سبيل الله، وهذا ليس في مقدور كل المؤمنين، ومحال أن يكون ركن من أركان الإسلام ليس متاحا لجميعهم وفي مقدورهم كلهم.

ثانيا: إن حكم الجهاد في الفقه الإسلامي هو فرض كفاية إذا قام به بعض المسلمين سقط عن الباقين منهم؛ لأنّ فعله يحتاج إلى قرار من السلطة السياسية، وليس مفتوحا لجميع المسؤولين فعله كما يريدون.

ثابثا: إن فعل الجهاد لا يكون بالمطلق، وإنما يقام عند الحاجة إليه، ولذلك تقرّر عند الفقهاء أن فعله كفائي، أي القيام به بالقدر الذي يحقق المصلحة للأمة ولا يزيد عن ذلك.

رابعا: الجهاد من المصالح الاجتماعية السياسية، الذي يحقِّق العدل والاستقرار، ويتحقق بفضلها مصالح تعبدية، على خلاف العبادات المحضة، التي يتحقق بفضل إقامتها مصالح اجتماعية وثقافية…

خامسا: الجهاد من الواجبات التي ارتبط فيها حق الله بحقوق العباد، فحق الله من حيث هو عبادة لمن قصد به وجه الله، وحق للعباد، لما يحقق من مصالح اجتماعية وسياسية.

وانا أتفهَّم قصد الأخ بركاني من إثارته للموضوع في هذه الظروف بالذات كما أسلفت، بسبب الخنوع والخور الذي تعيشه الأمة، وهو محق في ذلك، ولكن الإطلاقات الشرعية الاصطلاحية خاصة لها محاذير كثيرة تتسبَّب في انحرافات الناس في فهم النصوص المتعلقة بالموضوع، ولا يغيب عنا التجارب التي كانت في حركة الخط الجهادي الذي كان في الصحوة الإسلامية الذي بدأ ببراءة حماية الدعوة إلى الله والعمل على إقامة الشرع، وانتهت بضرورة الفعل الجهادي القتالي بوصفه عبادة لا يجوز تعطيلها، وقد ظهر ذلك جليا في جماعة الجهاد في مصر التي أصدر زعيمُها عبد السلام فرج كتابه “الفريضة الغائبة”، وفي الجماعات التي نشأت في مصر أفغانستان والبوسنة بعد ذلك والقاعدة وداعش وغيرها، ثم انتشرت أكثر في الجماعات التكفيرية، التي تبنت الخط الخارجي المعروف.

قبل هذه التجارب المريرة أنشأ الإخوان في أربعينيات القرن الماض تنظيما مسلحا لحماية الجماعة والقيام بالجهاد في فلسطين، ولكن هذا التنظيم سرعان ما تحوّل إلى عبء على الجماعة لم تستطع التخلص منه، حتى أن الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله قال “لا هم إخوان ولا هم مسلمون”.

قد يكون قصد الأخ بركاني من مفهوم الجهاد هو المعنى العامّ الذي هو عموم التضحية في سبيل الانتصار للإسلام والدفاع عن حقائق الوجود، كما لخَّص ذلك الإمامُ ابن القيم سياق الجهاد في الإسلام في «زاد المعاد» في هديه مع الكفار والمنافقين من حين بعث إلى حين لقي اللّه عز وجل، فكان جهاده بالقرآن أمرا ونهيا ودعوة إلى التوحيد وبيانا للدين والدنيا وقتالا بعد ذلك للمشركين والكفار، لا سيما في إيراده لحديث “من لم يحدِّث نفسه بالجهاد…” فهذا لفظ عامّ لا يُقصد به معنى القتال المشار إليه في صدر هذا المقال.

ومع ذلك يبقى الجهاد بجميع معانيه واجبا من الواجبات على كاهل الأمة، ولكنه ليس ركنا يُبطَل به إسلام المسلم إذا لم يقم به لسبب من الأسباب، تقصيرا أو جبنا أو تهاونا.

وتجارب الأمة في ذلك مريرة بسبب عدم انضباطها في التعامل مع قضايا الأمة بمقررات الأطر الكلية للفكر الإسلامي والتوجيات القرآنية.

وقبل هذه التجارب المريرة أنشأ الإخوان في أربعينيات القرن الماض تنظيما مسلحا لحماية الجماعة والقيام بالجهاد في فلسطين، ولكن هذا التنظيم سرعان ما تحوّل إلى عبء على الجماعة لم تستطع التخلص منه، حتى أن الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله قال “لا هم إخوان ولا هم مسلمون”، بمناسبة عملية اغتيال قام بها هذا التنظيم في ذلك الوقت، والجهاد الأفغاني الذي كانت تُشَدّ إليه الرحال من كل حدب وصوب، فقد كان من أقوى مبرراته القيام بواجب الجهاد في سبيل الله، وللأمة متسع في ذلك، ولكن كل المجموعات التكفيرية التي كانت محاصرة في بقاع العالم كله بسبب شذوذ طروحاتها انتعشت في ذلك الوسط الجهادي القوي… وما القاعدة ومشتقاتها عنا ببعيد، ولموضوع العنف في العمل الإسلامي كلام آخر طويل عريض لا يكفي معه التقرير الفقهي فحسب، لما له من علاقات بمختلف صور الواقع والمنظومات الثقافية والسياسية التي تحكم العالم.

على أن ما يهمنا في هذه الوقفة أن الجهاد سواء بمعناه العامّ الذي هو الاجتهاد والتضحية في سبيل الانتصار لدين الله، أو هو القتال في سبيل الله، من الواجبات التي لا يجوز للأمة أن تقصِّر فيها، ولكن موقع هذا الواجب من غيره من الواجبات لا ترتقي إلى مستوى الركن الذي يُبطل الإسلام والإيمان لمن قصّر فيه أو تهاون في القيام به.

والله أعلم.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!