-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الجوع في رمضان إذ يربّينا على العطاء والقناعة

سلطان بركاني
  • 652
  • 0
الجوع في رمضان إذ يربّينا على العطاء والقناعة

رمضان فرصة لتخليص النّفس من شحّها وبخلها وحرصها على الجمع والمنع؛ فالنّفس بطبعها تحبّ المال وتحبّ جمعه واكتنازه وإنفاقه في المآكل والملابس والبهارج والشّهوات، ((كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا)).. لكنّ العبد المؤمن الموقن بلقاء الله، يؤدّب نفسه ويلجمها ويرغمها على الإنفاق، حذرا من يوم لا ينفع فيه مال وخُلّة ولا بنون: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)).

العبد المؤمن يعلم أنّه عمّا قريب سيرحل عن الدّنيا إلى دار لا يصحبه فيها مال ولا خلّ ولا ولد، إنّما تصحبه طاعته لمولاه وتؤنسه صدقاته التي قدّم في هذه الدّنيا.. ليس في إمكان العبد أن يأخذ معه ماله إلى قبره، ولكن يستطيع أن يجعل ماله يسبقه إلى هناك.. عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: “أيُّكم مال وارثه أحبّ إليه من ماله؟” قالوا: يا رسول الله، ما منّا أحد إلا ماله أحبّ إليه، قال: “فإنّ مالَه ما قَدم، ومالَ وارثه ما أخَّر”، وعن عائشة -رضى الله عنها- أنهم ذبحوا شاة، فقال النبي -صلّى الله عليه وسلّم-: “ما بقي منها؟” قالت: ما بقي منها إلا كتفها، قال: “بقي كلُّها غير كتفها”.

من حِكم الصيام في رمضان أنّه ينبّه النّفس إلى شدّة وطأة الحرمان والحاجة على النّفوس، ويجعل نفس الصّائم تحسّ بمعاناة الجائعين والمحرومين وأهل الفاقة، لتتحرّك اليد بالعطاء، ليس ممّا فضل عن الحاجة فقط، إنّما أيضا ممّا يحتاجه الصّائم ويحبّه، يقول الحقّ -جلّ وعلا-: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾.. وإذا كان العبد ينتظر من نفسه الأمّارة بالسّوء المُحبّة للمال أن تجود وتتبرّع من دون مجاهدة ومراغمة، فذلك لن يكون.. لا بدّ من مخالفة هوى النّفس ومقاومة نزغات الشّيطان الذي قال عنه المولى سبحانه: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاء﴾.

كثيرا ما ينادي أئمّة المساجد ويستجدون لمساعدة الأسر الفقيرة التي تكابد الفاقة والعوز في رمضان وفي غير رمضان، لكنّ قليلا من الأيدي تستجيب وتبذل، بينما أكثر النّاس يعتبرون أنفسهم غير معنيين بالصّدقات! يطيعون أنفسهم في شحّها وبخلها وحرصها! ويقول قائلهم: سيتصدّق الآخرون! وينسون أنّ الآخرين لن يتصدّقوا بحسناتهم على أحد، ولن يحوّلوا ما في موازينهم إلى موازين المخلّفين! ربّنا الجواد الكريم -سبحانه- قال كما في الحديث القدسيّ: “أَنْفِق يا ابن آدم أُنْفِق عليك” (رواه البخاري ومسلم)، وحبيبنا المصطفى الذي لا ينطق عن الهوى أقسم على أنّ المال لا ينقص بالصّدقة؛ فلماذا نبخل عن أنفسنا بفضل ربّنا ورحمته وبركته؟ ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم﴾ (محمّد: 38).

رمضان فرصة من ذهب، لنهذّب أنفسنا الشحيحة ونؤدّبها، وفرصة لنتراحم ونجاهد أنفسنا على الإيثار، يقول الله تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون﴾.. يقول عبد الله بن عمر -رضي الله عنه-: “أُهدي لرجل مِن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأس شاة، فقال: إنَّ أخي فلانًا وعياله أحوج إلى هذا منَّا. فبعث به إليهم، فلم يزل يَبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها أهل سبعة بيوت، حتى رجعت إلى الأوَّل، فنزلت: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾” (رواه البيهقي).. يقول النبي -صلّى الله عليه وسلّم-: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” (رواه البخاري ومسلم)، ويقول -عليه الصّلاة والسّلام-: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” (رواه مسلم).

الإيثار لا يكون ببذل الصّدقات فحسب، إنّما يكون بالقناعة وعدم مزاحمة الآخرين على السّلع؛ فمن ملك كيس سميد في بيته فلا يزاحمنّ إخوانه أمام محلات السميد، ومن كانت عنده قنينة زيت فليتق الله ولا يزاحم إخوانه على الزيت، ومن ملك في بيته 4 أكياس من الحليب فلا يزاحمنّ إخوانه.. إذا لم نتحلّ في شهر الإحسان بالقناعة والإيثار، فمتى نتحلّى بمثل هذه الأخلاق؟

يُروى عن أمّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أنّها كانت صائمة، فبعث إليها عبد الله بنُ الزبير -رضي الله عنه- بمالٍ بلغ مائةَ ألف درهم، فدعَت بطبق؛ فجعلَت تقسم في الناس، فلما أمسَت؛ قالت: هاتي يا جاريةُ فطوري، فقالت: يا أمَّ المؤمنين، أمَا استطعتِ أن تشتري لنا لحمًا بدرهم؟ قالت: “لا تعنِّفيني، لو ذكَّرتيني لفعلت”.. كانت صائمة، فتذكّرت حاجة الفقراء والمحتاجين ونسيت نفسها! فما لِكثير منّا لا يزيدهم الجوع إلا اهتماما بأنفسهم وبطونهم؟!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!