الجيش التركي وسباق الدم
أكتب هذ السطور صبيحة يوم الثلاثاء 19/7/2016 والأمور محتدمة في إستانبول ولياليها الحبالى.. فقد لا تصل سطوري هذه إلى القارئ إلا وقد تغير المشهد المتحرك في تركيا وقام الجيش بانقلاب مضاد ضد أردوغان الذي تمكن من إفشال انقلاب الجيش الأسبوع الماضي… فالجيش التركي متمرس في الانقلابات التي تخدم أجندة الخارج.
ومعروف في تاريخ الجيوش في العالم أن الجيش التركي منذ العهد الإنكشاري أكثر جيوش العالم توريطا لدولته والسبب الرئيس في مآسيها، وورطها في عدة حروب حتى الحرب العالمية الأولى، ثم قام الضابط كمال أتاتورك بإنهاء الخلافة العثمانية مدفوعا بعلاقاته القوية مع فرنسا وأعلن قيام الجمهورية التركية وقطع كل علاقة بالعرب وبالإسلام، وأقام جمهورية علمانية على النمط الفرانكوفوني.
وصار الضباط الأتراك المتخرجون من المدارس العسكرية الفرنسية خصوصا والغربية عموما هم الحكام الفعليين لتركيا، بل صار الجيش هو حامي العلمانية، ولكن بدءا من الحرب العالمية الثانية اخترقت أمريكا الجيش التركي وأقحمته في محاربة الشيوعيين الجمهوريين بإسبانيا ثم في الحرب الكورية وصولا إلى حرب أفغانستان.
وفي عام 1979 تمكنت المخابرات الفرنسية من إيصال جماعة الخميني إلى السلطة في طهران لانتزاعها من يد الأمريكان، لكن الخميني سرعان ما أعلن نيّته في تصدير الثورة فوقع صدام حسين في الفخ الذي نصبته له أمريكا ودول الخليج وقام بمحاربة إيران تحت ستار الدفاع عن الجبهة الشرقية. وفي عام 1980 قام الجيش التركي بقيادة كنعان إيفيرين بالاستيلاء على السلطة في تركيا مقابل مبلغ مالي ضخم دفعته إليه دول الخليج، وكل ما استطاع إيفيرين تحقيقه هو الابتعاد عن فرنسا والارتماء في الأحضان الأمريكية، فانتقلت فرنسا من السرية إلى العلنية في معارضة دخول تركيا إلى الحظيرة الأوروبية، وفي تلك الفترة ورط الجيش التركي في قضية قبرص وأنشأ في شمالها دولة لم يعترف بها حتى الآن سوى تركيا نفسها.
وأخذت أمريكا تشجع التيارات الإسلامية التركية ضمن استراتيجية تحرك تركيا نحو الشرق على خريطة الدولة العثمانية، وفي التسعينيات وصل نجم الدين أربكان وحزبه الإسلامي إلى رئاسة الحكومة، لكن سرعان ما استقطبه الرئيس الليبي معمر القذافي فأزاحه الجيش بانقلاب عام 1997، وانقسم حزبه، لكن تمكن أهم تلاميذه رجب أردوغان من الوصول إلى السلطة وبدأ يدخل العالم العربي تحت شعارات إسلامية وشعار القضية الفلسطينية، وبدل أن ينافس إيران راح ينافس السعودية ومصر وحاول أن يستفيد من التحركات في تونس ومصر واليمن، ولكنه أخفق إخفاقا واضحا في جارته سورية التي ساندتها روسيا بقوات عسكرية فصار من المستحيل على الجيش التركي الاستيلاء على سورية. وفي الأسابيع الأخيرة انقلب أردوغان على سياسته المعلنة فتقارب مع روسا ومع إسرائيل واتجه نحو الاستقلالية مدعوما بشارع إسلامي تركي واسع من جهة، وبعجز أوروبي أمريكي واضح في مواجهة الإرهاب فتحرك الجيش ضده.
لكن أردوغان علم بالحركة قبل 6 ساعات من وقوعها فانتقل إلى مكان آخر وحرَّك مجاميعه في الجيش والمخابرات والشعب… وهو يبدو حتى اللحظة ممسكا بالأمور إذ إنه قام باعتقالات واسعة جدا وأقحم أمريكا في حركة الجيش من خلال خصمه فتح الله غولن.. إنه يقوم بعملية تنظيف واسعة وتبدو طويلة في جميع المؤسسات التركية وهذا بالتأكيد سيجد تأييدا من إيران وحتى من سورية. وقد حقق أردوغان أول انتصاراته على أوروبا وهي تهدده بعدم انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وهي ورقة فقدتها أوروبا فمستقبل اتحادها هو في هذه اللحظة في مهب الروح، بل إن أوروبا تبدو في حاجة إلى أردوغان الممسك بورقة اللاجئين السوريين وربما بورقة “داعش” وغيرها من المنظمات الإرهابية.. بل إنه مازال يمسك بورقة الأكراد.. فماذا لو اتفق معهم ووافق على حل المسألة الكردية ربما على الطريقة الروسية وأطلق سراح سجينه عبد الله أوجلان؟
وماذا لو قام أردوغان بإعادة تشكيل الجيش التركي وأعاده جيشا إسلاميا بتسليح روسي مرعبا أوروبا نفسها؟ إن رفع أردوغان يده بعلامة رابعة وتفسيره لها يبرّر هذا السؤال.
وليس ما يوقف أردوغان حتى الآن إلا أن يقوم الجيش باستعادة المبادرة ويغرق كعادته بلاده في بحر من الدم قد لا تغسله هذه المرة مياه مرمرة والمتوسط مجتمعة. وكم هو مرعب سباق الدم.