-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الحرب سِجالٌ بين أمريكا والطالبان

خير الدين هني
  • 519
  • 0
الحرب سِجالٌ بين أمريكا والطالبان

الطالبان لفظة أفغانية يقصد بها الطلبة، وهم جماعة تعدادهم خمسون، من طلبة العلوم الشرعية، كانوا ينتسبون إلى المعاهد الدينية بتوجيه الملا عمر، وكلمة الملا في لغتهم المحلية تقابل لفظة الشيخ في المعجم العربي، وهم  سنّة على مذهب الأحناف، ما تريديي العقيدة، على مذهب الأشاعرة السنيين، خلافا لتنظيم “القاعدة” الذين  كانوا على مذهب الحنابلة.

ولما نهلوا من العلوم الشرعية ما نهلوا، وتعمقت بهم الدراسة وأخذوا بظاهر النصوص من غير تأويل ولا تكييف، ومزجوها بالتقاليد المحلية التي هي من صنع الناس، ولا تمتُّ إلى الإسلام بأي صلة على نحو ما كان جارٍيًا به الفهم في  البلدان الإسلامية، فلما اكتملت لديهم صورة المشروع الإحيائي، تبنوه بغلو وتشدّد حينما استلموا الحكم، وانضم إليهم المتدينون والمتحمسون للمشروع الإحيائي، فضيَّقوا على الناس واسعا من الشريعة، وحجروا على المرأة حريتها في الحركة والنشاط والرأي والاختيار والتعليم، وأخذوا يذيعون عقائدهم المتشدِّدة بين جموع الشعب الأفغاني، الذي خرج منهوكا من محاربة شيوعية السوفييت، العدو اللدود للغرب المتشبِّع بالثقافة اللبرالية، التي أعلنت تحررها من القيود الدينية والأخلاقية.

والمادية الشيوعية واللبرالية، كلاهما يتنكر للعقائد الدينية، ويدعو إلى التحلل من العقائد الروحية والأخلاقية، ولا فرق بينهما في وجوه الخلاف إلا في حدة العداء للعقائد الدينية، وطرق تسيير الاقتصاد وتوجيهه وفق معايير تخضع لحرية الممارسة عند اللبراليين، أو جعله عقيدة محتكَرة تسيِّرها أقلياتٌ بروليتارية متسلطة فرضت نفسها بالانقلابات، ولكنّ الغاية الخفية من صراعهما -رغم اتفاقهما على محاربة العقائد والأخلاق، مع شيء من التفاوت بينهما في ضراوة المحاربة- هو التسابق نحو التوسُّع والسيطرة على مناطق نفوذ جديدة، ولذلك انقسم العالم إلى قطبين أيديولوجيين متخاصمين، يكيد كلٌّ منهما للآخر، ويتربص به الدوائر  للإيقاع به.

والغرب اللبرالي بماديته المرنة مع الأديان، والمتحلّلة من قواعده الأخلاقية، وجد في الإسلام قواسمَ تشترك معه في معاداة الشيوعية التي تفسِّر العقائد الدينية تفسيرا دياليكتيا، وتناصبه العداء وتحاربه بكل الوسائل، وتمنع ظواهره من أيِّ استعراض مناسباتي، لذلك استغفل الشبابَ المتحمسين من الإحيائيين، وزوَّدهم بالمال والسلاح والتأييد الديبلوماسي، وأطلق عليهم لقب المجاهدين كي يشحذ هممهم، ويوقظ في نفوسهم غرائز القتال، لإيقاف الزحف الشيوعي، وحثّ الدول الإسلامية والعربية على تجنيد المزيد من المتحمسين للجهاد، للإلقاء بهم في حرب ضروس مع السوفييت، كيما يكونوا وقودا لحرب بالوكالة من أجل مشروع غربي ليبرالي ثقافي اقتصادي، كي يُتاح لهم الهيمنة على العالم، والسيطرة على قراراته الدولية، باستعمال القوة تارة، أو بما يسمّونه قرارات المجتمع الدولي الذي يقصدون به أنفسهم، من خلال المؤسسات الدولية وحق النقض الظالم.

والتنظيمات الإسلامية المجندة لهذا الغرض كثيرة، من أشهرها تنظيم القاعدة، بقيادة  الملياردير أسامة بن لادن السعودي الجنسية اليمني الأصل، فلما انقلب غورباتشوف على الشيوعية ودحرها في عقر دارها، بعدما عاين إفلاسها ماليا واقتصاديا وأيديولوجيا، وكشف زيفها وخرافة نظريتها وطوباويتها، انقلب الغربُ الليبرالي على الإسلام والحركات الإسلامية التي جنَّدها من طريق أجهزته الاستخباراتية ووكلائه في العالم المأمور، وحينها أعلن للعالم بأن عدوَّه المقبل هو الإسلام، ومنذ ذلك اليوم أخذ في صياغة مصطلحات التشويه، والتنقيص من شأن الدول العربية والإسلامية والحركات المقاوِمة، كمصطلح (الإرهاب) الذي أصبح مصطلحا هلاميا، لا لون له ولا شكل ولا ماهية، ولا تعريف دولي متفق عليه.

وأضحى يطلقه كل متغلّبٍ على خصومه، وإن كانوا معارضين أو مقاومين أو محاربين لاسترداد حقوقهم أو أوطانهم المستعمَرة، كالحركات المقاوِمة في فلسطين ولبنان وكشمير والصحراء الغربية، ومن قبل جيش التحرير الجزائري، ولم يكتفوا بهذا المصطلح غير الدقيق، فزادوا عليه  مصطلح (محور الشر)، وهو مقتبسٌ من التراث المسيحي، استعمله كبار السياسيين الإنجيليين في الولايات المتحدة، على لسان بوش الصغير، وثلّثوا بمصطلح (الدول المارقة) أطلقوه على الدول التي أبت الخضوع لسيطرتهم المهيمنة، كإيران والعراق في عهد صدام وكوريا الشمالية.

والغرض من إطلاق هذه التسميات المشوِّهة على الرافضين للظلم، هو إيجاد مسوغات قانونية، كي يبرروا خروجهم عن القانون، ويجيشوا الجيوش ويعلنوا الحرب على ما يسمونه الدول المارقة أو التنظيمات الخارجة عن القانون، على نحو ما فعلوه في العراق وأفغانستان، وغرضهم  من ذلك ما خططوه لما يسمونه “الفوضى الخلاقة”، يقصدون أن الفوضى المنتشرة في البلدان التي خربوها ودمروها، هي التي تجلب الحرية والديمقراطية لشعوب هذه المنطقة.

ولكن الواقع السياسي بعد ثورات الربيع العربي، أثبت أن هذه المقولة مخادِعة وتدخل فيما يعرف بالدعاية المضللة، التي تدخل في نطاق الحروب النفسية.

وبهذا التضليل المتعمّد جوّزت الولايات المتحدة لنفسها احتلال أفغانستان، بعد ما دمرت العراق، بدعوى القضاء على أسلحة الدمار الشامل، ومحاربة القاعدة وإزاحة الطالبان من الحكم، لأنها احتضنت القاعدة، ولم تحترم حقوق الإنسان، ثم نصّبت في الحكم وكلاء فاسدين موالين لها، وبقيت الحرب مستعرة بينها وبين الطالبان عقدين كاملين، فلما طال عليها الأمد وتكبدت خسائر جسيمة، انسحبت مدحورة، وفرّ حاكمُها المذعور ومعه أكداس من الأموال المنهوبة من غير أدنى مقاومة، وتركت الطالبان يعودون إلى الحكم من جديد، وقد خبِروا الحياة وصقلتهم التجارب، بعد نضوج أفكارهم وخبراتهم، وفهموا بأن السياسة ليست لعبا ولهوا واستمتاعا، وإنما هي علمٌ وفنّ ورشد، وتخضع للحساب والمرونة والتكيّف، وتجلّى نضجُهم في تعاملهم اللطيف مع الخصوم والمعارضين،  وفي تصريحاتهم وأقوالهم وتبشيراتهم.

وبمشاعر العطف على الشعب الأفغاني المستضعَف، آملُ من هذه الحركة المتغلّبة، أن تسمع إلى أنين هذا الشعب المضنون عليه، وتقوده بالحكمة والعدل والمساواة، وأن تكون حكيمة في اتخاذ القرارات وألا تغلو فيها ولا تتشدّد، وألا تتسرع في الأحكام غير المحسوبة، ولا تضيّق على الناس ولا تحجر عليهم حرياتهم، وأن تمنح المرأة المستضعَفة حريتها في الحركة والنشاط والتعليم والوظيفة، وأن تكون وسطيّة وتعمل بفقه الأولوية والضرورة، الذي لا ضرر فيه ولا ضرار في التشريع والتسيير والتعامل مع المواطنين والمعارضين والمجتمع الدولي.

كما يجب على المجتمع الدولي مساعدة طالبان على العمل من غير تضييق بالعقوبات، لأن العقوبات تحرِّك في نفسها نزعة التشدُّد والتطرُّف والانتقام، فتحوِّل أفغانستان إلى بؤرةٍ للمخدرات والممنوعات والجريمة المنظمة، وتجارة الأسلحة والرقيق وتزوير العملات الأجنبية وترويجها في العالم، وإعادة التنظيمات الإرهابية إلى سابق عدائها للغرب، فتنتشر الفوضى والعنف والإرهاب في العواصم الغربية، وهذا ما لا يحبه أي عاقل حرّ كريم في الغرب ولا في الشرق، إلا إذا كانت الحكومات الغربية تريد السعي إليه لأغراض يعلمها الجميع.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!