الرأي

“الحرقة”.. أو الاستعمار المضادّ!

أرشيف

تزامنت فاجعة اختفاء 13 شابّا جزائريّا بعرض البحر المتوسط، مع إقرار إيطاليا قانونا يمهّد للتشديد على الهجرة غير الشرعية، ما يعني أن هذه الظاهرة الخطيرة أضحت فعلاً تؤرّق بلدان المنشأ والمقصد على السواء.
أي أنّ المجتمع الدولي يقف اليوم عاجزًا عن تطويق الظاهرة المتزايدة بشكل مطّرد، بعد عقود من المكافحة عن طريق التدابير التشريعية والتنظيمية وعمليّات الإنقاذ والمراقبة، وحتّى التدخل العسكري لكبح مدّ “الحرقة” نحو القارّة الأوربيّة تحديدا، ما يؤكد ضرورة البحث عن مقاربة بديلة وفعّالة في احتواء الوضع بدل استنزاف الجهود الوطنيّة والدوليّة دون جدوى.
لذلك ظهرت فكرة إعادة تكييف الإشكالية ضمن آفاق التنمية المستدامة، لجعل المشكلة هي مدخل الحلّ، من خلال استثمار تداعياتها بما يعود بالنفع على الجميع، عبر تشجيع الإدماج الاقتصادي للمهاجرين في مواطن النزوح، فضلاً عن دعم النهوض التنموي في بلدانهم الأصليّة.
واعتقادنا أنّ ما انتهت إليه الجهود الأمميّة بهذا الشأن لا يحمل منّة لفائدة هؤلاء التُعساء، بل يعكس حقيقتين عادة ما يجري التستّر عليهما، أمّا الأولى فهي أنّ السماح بعبور “الحرّاقة” إلى القارّة العجوز لا يعدو أن يكون إبراء ذمّة من ديْن تاريخي مُثقل بالجرائم، أمّا ثانيتها فهي أنّ إيواء هؤلاء المهاجرين ليس عبئًا تنوء بحمله أوروبّا، بل هو براغماتيّة تصنع من هذه الأزمة الإنسانيّة فرصة لتعزيز مؤشرات النموّ والتقدّم لديها.
لا ينكر عارفٌ بترسّبات التاريخ أنّ النهب الاستعماري لثروات البلاد المُستعمَرة، ثمّ التدخلات المباشرة في سياساتها أفقدها أمنها الاقتصادي ورهن قرارها السيادي، ما أفرز الفقر والجوع والتخلّف، والأسوأ النزاعات المسلحة والحروب الأهلية ومآسي الربيع العربي، إلى درجة أنّ أوروبا شهدت عام 2015 أسوأ أزمة لاجئين منذ الحرب العالمية الثانية، بفعل النزوح الجماعي للمهاجرين القادمين من سوريا وأفغانستان والعراق وسيريلانكا وغيرها.
وتقدّر التقارير الأمميّة حجم التدفقات البشريّة بمئات الملايين، ما من شأنه أن يغيّر تركيبة العالم السكانيّة بعد عقود قليلة، وبالتالي فإنّ ما زرعته الحضارة الأوربية، وما سلكته في حق الشعوب المستضعَفة هو ما أخّرها عن مواكبة الركب، وهو الذي سوف يحدد مصيرها في الخمسين سنة القادمة، إذ يصف خبراءُ الإستراتيجيات المدَّ الشّعُوبي الحالي بأنه استعمارٌ جديد بشكل آخر، لمجتمعات كانت في وقت سابق هي المُستعمِر بالقوّة.
هذه الحقيقة المغمورة هي التي دفعت الأمم المتحدة منذ 2006 إلى ربط الهجرة الدوليّة بالتنمية، لإدراكها أنّ الهجرة لها أهمية كبيرة في عملية التنمية البشرية، في حال استغلالها وحسن توظيفها لدعم النمو الاقتصادي العالمي والمساهمة في تطور البلدان المقصودة، بل إنها تُغني العديد من الثقافات والحضارات، بعد ما أثبتت التقارير أنّ المهاجرين لا يشتغلون فقط في وظائف يمتنع عن أدائها السكان الأصليون، بل إنهم يبدعون كذلك في أنشطة عالية القيمة يفتقد مواطنو البلد المقصد إلى مؤهِّلاتها، كما تمثل تحويلاتهم الماليّة مصدرا مهمًّا للدخل، أكثر من مساعدات التنمية الرسمية أو الاستثمارات الأجنبية المباشرة.
ويكفي تدليلاً على ذلك أنّ الرئيس أوباما قال في 2010 “كنّا نُعرّف عن أنفسنا دومًا على أننا أمة من المهاجرين.. والواقع أن التدفق الثابت للمهاجرين هو الذي ساعد في جعل أمريكا على ما هي عليه الآن.. وأنّ الهجرة تعني قوى عاملة واقتصادا أسرع نموّا”.

مقالات ذات صلة