الرأي

الحكم بالجهل..وجهل الحكم

محمد سليم قلالة
  • 2884
  • 5

تكون سياسة التربية والتعليم من غير رؤية إذا لم يكن لمخرجاتها تأثير على مسار وتسيير شؤون الدولة، ليس فقط في المجال السياسي إنما في كافة المجالات حيث ينبغي أن يُرى ذلك في شكل سيادة للعلم والكفاءة على مستوى اتخاذ القرار، وفي شكل اعتماد واضح للأساليب العلمية في التسيير لتحقيق أعلى مردودية ومحاربة الفساد. هل حدث هذا وكيف ينبغي أن يحدث؟ ذلك هو سؤال اليوم والغد؟

رغم أن الدولة اعتمدت منذ الاستقلال خيار فتح باب التعليم للجميع وفرضت إجباريته ومجانيته، إلا أن التعامل مع مخرجات هذا القطاع كان في كل مرة يتم بريبة وشك، وكأنه لم تكن هناك قناعة لدى الحكم بأن هؤلاء المتعلمين يمكنهم أن يقودوا البلاد ذات يوم. لقد بقي هاجس الخوف من المتعلمين ساكنا بعض القادة ومازال إلى اليوم، ينظر لهم بشيء من الريبة والتوجس وكأنهم لا يصلحون سوى للانقياد، أما القيادة فذلك أمر ينبغي أن يبقى لذوي الخبرة والشجاعة وأحيانا المغامرة الأقدر على خوض غمار المجهول في كافة القطاعات وعل كافة المستويات، على حد زعمهم…

ويبدو أن جذور هذا الموقف تعود إلى  حقبة ما قبل الاستقلال عندما ظهر التمايز الواضح بين أولئك الذين يؤمنون بأولوية الفكر على العمل وكانوا يعتقدون في أن استعادة المجتمع لشخصيته ووعيه وقيمه الوطنية وإدراكه لمشروعه الحضاري ينبغي أن يسبق أي فعل ثوري ضد المستعمر بل ويعتبرونه أعمق فعل ثوري، وأولئك الذين أصبحوا مقتنعين أن الفعل الثوري هو أرقى وسائل التعبير عن الوعي بالذات والوجود ينبغي الشروع فيه وتحقيق الانتصار، أما بناء القاعدة الثقافية وبناء الشخصية الوطنية واستعادة مكوناتها فينبغي أن يأتي في مرحلة لاحقة ليصون ويُطور النتائج المترتبة عن هذا الفعل الثوري.

ولعل هذا ما حدث بالفعل، حيث تم تجاوز منهجية جمعية العلماء المسلمين، وحتى منهجية نخبة الحركة الوطنية التي تريثت في الإعلان عن الثورة رغم قناعتها بها (القيادة التاريخية للحركة الوطنية المتمثلة في مصالي الحاج وأعضاء اللجنة المركزية)، وتم تفجير الثورة باعتبارها لحظة وعي تاريخية ينبغي أن تستوعب كل التناقضات الفكرية وتؤجلها إلى مرحلة ما بعد الاستقلال.. وقد كان ذلك حقيقة لا شك فيها تجاوزت التناقضات والسلبيات التي عادة ما ترافق التنظير السابق للفعل، وانتصرت الثورة، ووجدت القيادة المنتصرة نفسها أمام  تحدي البناء الوطني الذي يتطلب رؤية وقدرة على التسيير كانت في أدنى المستويات: من يُشرف على بناء مؤسسات الدولة؟ ما هي الرؤية التي ينبغي تبينها؟ أي خيارات ينبغي أن تكون في مجال البناء الاقتصادي والاجتماعي: الليبرالية أم الاشتراكية؟ أية لغة ينبغي اعتمادها في التعليم العربية أم الفرنسية؟ أي نمط سياسي ينبغي أن نختار التعددية أم الأحادية؟  أي مكانة للدين في الحياة السياسية اللائكية أم الإسلام دين الدولة؟ وأية مكانة للمرأة والأسرة ضمن هذه الخيارات؟ وعشرات الأسئلة التي كانت تفرض نفسها وتضغط على المنتصرين في الثورة لأجل تقديم إجابات صحيحة وقادرة على أن تبقى صحيحة في المستقبل.

وكانت هذه لحظة فارقة في تاريخ الجزائر، حيث كان ينبغي أن يتم البحث عن إجابات لدى النخبة المثقفة سواء تمثلت في العلماء أو اليساريين أو الليبراليين أو ممن التزموا بالخط الوطني الذي حاول استيعاب كل هذه المكونات… وهنا برزت القيمة الكبيرة للمشاريع الفكرية التي كانت مطروحة قبل الثورة (العلماء) وأثناء الثورة (عبان رمضان)، إلا أنه بدل إيجاد تركيب متوازن بينها تم تحييد بعضها والاستعانة ببعضها الآخر بشكل مفرط،.. حيث استحوذت كوادر كانت تعتبر النقيض العضوي للثورة وجزء من الإدارة الاستعمارية بامتياز وأحيانا حتى عميلة للاستعمار  على أكثر من موقع وبخاصة في الإدارة الجزائرية، (انظر مغنية الأزرق نشوء الطبقات في الجزائر)، وقبلت هذه “النخبة” غير الوطنية بموقع الظل، وسايرت السلطة الثورية آنذاك في خياراتها من غير نقاش أحيانا مرسخة في الأذهان تلك الصورة التي مازالت لحد الآن عن النخبة بعد الاستقلال وعن المثقف والمتعلم بشكل عام، بأنه بنبغي أن ينقاد لا أن يقود وأن يجد مبررات لسياسات الآخرين لا أن يصنع هو سياسات ويسهر على تنفيذها.

ووجد بعض السياسيين هذا الوضع مريحا، فلم بعد يزعجهم أن لا تكون المدرسة الجزائرية في المقدمة، أو تبتعد الجامعة عن صناعة الإنسان وإنتاج الأفكار… وتم توريث هذه المنهجية لجيل من السياسيين أصبح  هو الآخر لا يؤمن بجعل العلم والكفاءة في المقدمة، إنما بأحقيته في القيادة بلا علم، بأحقيته في أن يكون على رأس الحكم وإن جهل أبجديات تسيير الحكومة، وإن قام بتسييرها بالجهل.

ونحن اليوم نعيش مرحلة مفصلية في تاريخنا الوطني تشبه مرحلة ما بعد الاستقلال مباشرة، إما أن تستعيد الكفاءة الوطنية المتجذرة في العمق الشعبي المبادرة وتتصدر قيادة مشروع البناء الوطني للعقود القادمة، أو تستأثر بها  قيادات رديئة تسعى للاستحواذ على الحكم أو تُدفع إلى ذلك ليبقى تسييره بيد ورثة الإدارة الاستعمارية أو من يرمز لهم ويمثلهم خير تمثيل… وهنا يتجلى دور النخبة الوطنية خريجة مدرسة الاستقلال التي تؤمن بأنها نابعة من رحم هذا الشعب ومن عمق مداشره وقراه وأحيائه الشعبية: إما تكون في مستوى الرهان الذي وضعها فيه الرجال المخلصون الذين فتحوا لها أبواب التعليم المجاني من الثوريين الحقيقيين الذين كانوا يريدون لأبناء هذا الشعب أن يتعلموا ويحكموا حقيقة بعد 50 سنة من الاستقلال أو أكثر،  أو تتخلى عن مسؤولياتها وتنسحب من الساحة خوفا  من مواجهة التحدي وتحمل المسؤولية التاريخية.

ولعل هذا ما ستبين مؤشراته المواعيد الانتخابية القادمة وما  ستدل عليه القيادات والقوى الجديدة التي ستنبثق عنها: إما قيادات مدركة لعمقها التاريخي ولطبيعة التحدي المستقبلي وقادرة على مواجهته بالعلم والعمل، أو قيادات تريد أن تكون في الواجهة من غير أدنى اهتمام بمن يقود، قابلة لأن تبقى في الحكم ولو حكمت بالجهل، مكرسة فكرة أن مدرستنا وجامعتنا ينبغي أن تقوما بتكوين منفذين لبرامج ومخططات لا  أن تُكَوٍّنَا قادة لمشاريع وصانعي سياسات…

ويبدو أن مكمن الداء والدواء هو هنا: أن نعيد التوازن  المفقود بين قادة الحركة السياسية والنخبة الوطنية العلمية بجميع مكوناتها هو الدواء، أو نحيّد هذه الأخيرة مرة أخرى ليحتل مكانها الأجنبي وريث الإدارة الاستعمارية بالأمس يخطط ويوجه من خلف الستار في موقعه المفضل باستمرار… الاختيار يبقى لنا جميعا.. ويمكن أن يُختزل في اختيار رئيسنا المقبل…

مقالات ذات صلة