-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
مقدّمة حركة القرآن المجيد في النّفس والمجتمع والتّاريخ 

الحلقة (17): الغلـوّ ليس من الدّين

أبو جرة سلطاني
  • 384
  • 2
الحلقة (17): الغلـوّ ليس من الدّين

ديْدنُ الغلاةِ التّشدّدُ في فهم كلام الله، وحمْل النّاس على العزيمة بزعمهم أنها حقيقة الدّين ليكونوا أكثر إيمانا وتصديقا ومفاصلة للكافرين، بحرمان المسلمين من حقّهم في الأخذ بالرّخص المباحة بشروطها التي يحبّ الله أن تُؤتى كما يحبّ أن تُؤتَى العزائم. وحجّتهم في ذلك آية واحدة يجتزئونها من بين أزيد من ستة آلاف آية هي قول الله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ (المائدة: 68)، فيزعمون أنّ أهل القبلة ليسوا على شيء من الإسلام حتّى يقيموا القرآن.

بلغني ذات مرّة أنّ موظّفا صغيرا كفّر المجتمع كلّه بأنه “مجتمع جاهلي” لا يقيم القرآن ولا يُمضي الشّريعة في شؤون حياته، فهو ليس على شيء من الدّين بحكم الله في أهل الكتاب حتّى يقيم القرآن! ولما جادلته ألحقني بالكافرين وقال لي: لست على شيء حتّى تقيم القرآن! فالتمست منه أن يرشدني إلى كيفيّة إقامة القرآن. فقال: تستقيل من وظيفتك -ـكنت أستاذا بالجامعة- وتلزم بيتك وعليك خاصّة نفسك لا يضرّك من ضلّ إذا اهتديت! وافترقنا. بعد مدّة بلغني أنه أصيب بلوثة فكريّة وصار يروّج المخدّرات بذريعة أنّ المجتمع كافر و”تخديره” عبادة لله وطاعة، والغريب أنه يستشهد بابن تيميّة في من كانوا يتعاطون الخمرة من الأجناد حين قال: دعوهم فقد أراح الله منهم المسلمين! هكذا كان يقول لأتباعه، وكان له أتباع! قلت: إنّ الغلوّ في الدّين يبدأ من لحظة اتّخاذ القرآن عِضين؛ فينشأ عنه التّكفير والقول المتحذلق المتزندق والتّشدّد المغلق والانحراف عن الجادّة. ومنه تنشأ الفرق الضّالة والجماعات المنحرفة، وعنه ينبثق فقه الغُلاة القائلين بخلود صاحب الكبيرة في النّار.. والله -جل جلاله- يتوب على الذين يدعون معه إلهًا آخر ويقتلون النّفس التي حرّم ويزنون، إذا تابوا وعملوا صالحًا: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ (الفرقان: 70).

هي مسائل تحتاج إلى نقاش هادئ تُردّ فيه النّصوص بعضها إلى بعض ولا يؤخذ القرآن أوزاعًا ويُجعل عضين حذّرنا الله منه: ﴿كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ﴾ (الحجْر: 90- 91)، أنزل الله عليهم غضبه وعذابه بتجزئة كلامه والإيمان ببعض والكفر ببعض والتّملّص من تكاليفه بالقول: هذا سحر، وهذا شعر، وهذه كهانة وهذا من أساطير الأوّلين… وهذا كلّه مردودٌ على أصحابه بنصوص الوحي نفسها لمن يفسّر القرآن بالقرآن؛ ففي القـرآن ثوابت ومتغيّرات، وفيه مُحكم ومتشابه، وفيه عامّ وخاصّ، ومطلق ومقيّد، وناسخ ومنسوخ… الخ. ولو أنزله الله تعالى قرآنا ثابتًا غيرَ قابل للتّأويل بشروطه، أو فسّره رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- كلّه كما فسّر الظّلم العظيم بالشّرك لجمَد النّص على عهده، لكنّه لم يفعل واكتفى بتفسير آيات قليلة لا يتجاوز عددها عدد أصابع اليديْن، لأنّ الله لم يأذن له بغير ذلك، ولم يأمره بتفسير القرآن للنّاس، ولو أمره لفعل. والحمد لله على أنه لم يأمره ولم يفعل، ولو فعل لتوقّفت حركة التّفسير بعد وفاته -صلّى الله عليه وسلّم- ولكنّ رحمة الله أوسع من أنْ تضع البشريّة كلّها في “قالب فهم” واحد للدّين يراه الناس جامدا ويحسبه العقل جاحدا. فنزل القرآن مرِنًا متحرّكا واقعيّا متجدّدا، وتعامل معه رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بمرونة وواقعيّة ويسْـر. فأحدث به واقعًا متحرّكا في حياة جيل التّأسيس، لعلمه أنّ هذا النّص المقدّس لو كان ذا وجه واحد قابل للتّفسير مرّة واحدة لأنزله الله -جل جلاله- مفصَّلاً في حجم أكبر مما وصلنا، يمتدّ فيه الكلام الجامع من ربّ العالمين إلى تفاصيل كثيرة تنقله من الإطلاق إلى التّقييد، ومن الاختيّار إلى الاضطرار، ومن المنهاج المتحرّك إلى القالب الجامد، ومن القدوة إلى الصّناعة، ومن الاجتهاد إلى التّقليد… وهكذا.

إنّ مجرّد طرح هذه الفرضيّة ينزع عن القرآن الكريم أهمّ ما من أجله نزل، وهو توحيد الله -جل جلاله- وعبادته عن طريق الاختيّار المُحِبّ وليس عن طريق الاجبار المُكرِه على الإيمان. فلو شاء الله لكانت البشريّة كلّها على التّوحيد، ولكنّه لم يشأ إخضاع الرّقاب ولا إكراه العقول على التّسليم له بالسّمع والطّاعة، ولم يأذن لرسوله -صلّى الله عليه وسلّم- بفعل ذلك: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ (يونس: 99)، فحُريّة التّديّن نعمة كبرى لا يمكن أن تتحقّق إلاّ بالنّظر العقلي والتّطلّع العاطفي والتّدبّر الوجداني في ملكوت السّمـوات والأرض، وكلّها تفريعات لمبدأ أصيل في هذا الدّين العظيم، هو مبدأ حرية الضّمير أو الحرية العقليّة بعدم الإكـراه الوجداني على الإيمان، والعمل على تحرير النّفس من قيود الإملاء وشروط الأحكام المسْبَقة ودعوتها إلى نفض الغبار عن فطرتها التي فطرها الله عليها، وإزاحة الحواجز بينها وبين كلام الله، ولو كان الحاجز اجتهادًا لعالم أو فقيه، ما لم يكن مستندًا على القرآن نفسه أو على  ما صحّ عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وما عدا ذلك يؤخذ منه ويردّ..

فلا واسطة بين العبد وربّه إذا تعلّق الأمر بعقيدة التّوحيد والعبادة والتّكليف الشّرعي والدّعاء، لقوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ (البقرة: 186)، قريب من غير وسيط ومعبود بغير واسطة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • جلال

    بإختصار القرآن كتاب إلهي موحى من الله , يحمل طابع المطلق في المحتوى، والنسبية في الفهم الإنساني له أوبعبارة أخرى هو ليس تراثاً، وإنما التراث هو فهم الناس النسبي له باختلاف الزمن (ثبات النص وتغير المحتوى ) قد يقول قائل بالتأويل أم كلمة تفسير فلا تصح (كتاب فصلت آياته...آيات بينات) فتفسيره في ثناياه وإنما يظهر تأويله تدريجياً مع تقدم العلوم والمعارف و ليس مطلوباً منه الإجابة على كل تساؤلاتنا الا ما أراده الله لنا ، والا لما كان معنى للبحث والتنقيب (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ) ، لكنه يقدم نظرية متكاملة في المعرفة الإنسانية، ويقدم قصة الخلق والوجود الإنساني بما لا يتناقض مع آخر النظريات العلمية، كذلك من خلال القصص القرآني، يعطينا العبر التي تساعد على دراسة التاريخ ونشوء الأمم وزوالها

  • الهفاف

    نعم الغلو ليس من الدين و الذين يكذب علي شعبه و هو في وزير ليس من الدين،و الذي يستعمل منصبه للثراء و عائلته ليس من الدين، و الذي يسرق مال العام أو أرضي ليس من الدين.