-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
مقدّمة حركة القرآن المجيد في النّفس والمجتمع والتّاريخ

الحلقة (19): القرآن دعوة لتحرير الإنسان

أبو جرة سلطاني
  • 341
  • 2
الحلقة (19): القرآن دعوة لتحرير الإنسان

بأيّ حقّ يظهر في النّاس من يجعل نفسه وسيطًا بين الحقّ والخلق ويحْرم من آمنوا بأنّ القرآنَ كلامُ الله من نعمة تدبّر كلام اللّطيف الخبير وتذوّق خطابه لخلقه دون أيّ وساطة بينه وبينهم سوى زاد التّدبّر وعدّة التفكّر والنّظر في النّفس من داخلها؟ وإلاّ فما قيمة دين جاهز يمنع عن النّاس عرْض أنفسهم عليه ليهديهم إلى صراط الله المستقيم، ويعرضوا كتابه على عقولهم ليتذوّقوا وقْعه على قلوبهم فتخشع له وتُوجَل فيزيدهم إيمانا كلّما ازدادوا تحرُّرًا من جذْبة الطّين. فالوحيُ نصّ حيّ متحرّك في النّفس ثابتٌ في التّلاوة ميسّر للفهم.. كالنّبع المتدفّق لا تكدّره الدّلاء.

بهذا المعنى تتحوّل حريّة النّظر والتّفكّر والتّدبّر إلى تفسير خاصّ بكلّ مؤمن، هو فهمه الذّوقي الدّاخلي الذي يُشربه قلبه ولا ينطق به لسانُه، يستشعره من يقرأ كتاب الله حرارة إيمان لا يملك الإعراب عنها. فهو “تفسير ذاتي” نابعٌ من شوق الإنسان إلى اكتشاف حقيقة الوحي بنفسه كأنّه يتنزّل عليه فيُذعن لله -تعالى- بمشاعر الاختيار الحرّ بعد أن يعرض النّص القرآني الكريم نفسَه على المتأمّل فيه ويقدّم له الخيارات الكبرى بين الإيمان والكفر، ثم يمنحه حقّ الاختيار بين البدائل وإظهار عزّة الحقّ وحقارة الباطل: ((وَقُلِ الحَقُّ مِن رَبِّكُم فَمَن شَاءَ فَليُؤمِن وَمَن شَاءَ فَليَكفُر)) (الكهف: 29).

فهل يوجد دينٌ أعظم من هذا الدّين؟ وهل يوجد كتابٌ في الكون كلّه يقول لمن يقرأه -ولو كان من ألدّ أعدائه- لا تؤمن حتّى تتأمّل الكون من حولك، ولا تسلم حتّى تعرض على عقلك الحقّ الذي أعرضه عليك وعلى النّاس جميعا ليؤمنوا به عن بيّنة أو يكفروا به عن بيّنة؟

الحقّ الذي يدعو القرآنُ المحاجّين إلى الإيمان به هو نفسه الحقّ الذي نزل من عند الله حجّة عليهم. والمشكلة الوحيدة في حركة الإنسان هي أن يُحال بينه وبين الحقّ فلا يعرفه، أو يأتيه مُهوّشا بشبهة ما يبدو حقّا من عند غير الله فلا يبصر جماله ولا يستشعر جلاله، وقد يصغي لغيره، وهو ما كان أعداء هذا الدّين يتواصون به: ((وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُون)) (فصّلت: 26)، أو يتوسّط علماء زمانه ودعاته وأحباره ورهبانه بين عقله وبين كلام الله فيصبح حقّ الله مغلَّفًا بهوى النّفوس أو بشهوات الغرائز أو بشبهات العقول، فلا يصله إلاّ مشوّها مغشوشا فيراه دينا معلولاً أو دعوة مدخولة إذا خالط فكر البشر دين الله بما ليس من هديه. فالقـرآن الكريم لا يدافع عن حريّة الفكر فحسب، وإنما يُدافع عن حريّة الكُفر أيضا لمن اختار هذا السّبيل إذا وفّر “لحريّة كفره” شرطيْن اثنيْن، الأوّل: أن يَسمح للعقل بسماع كلام الله؛ فلا يُكره أحدا على الكفر ولا يسدّ منافذ الدّعوة في وجه حمَلتها. وعلامة ذلك أنْ يقبل الحوار مع من يدعوه إلى الإيمان بحريّة، فيؤمن بحريّة أو أن يكفـر بحريّة. والثّاني: ألاّ يتخذ الحريّة سبيلا لمنع الحقّ من الانتشار، فيقف بكفره -باسم الحريّة- أمام كلام الله لمنْع انتشاره وبلوغه أسماع للناس، والقاعدة في هذا:

–        أنّ الإسلام لا يكره أحدًا على الإيمان به.

–        ولكنه لا يسمح لأحد بأنْ يكره أحدًا على الكفر.

فاحترام خيار من يؤمن كاحترام خيار من يكفر بغير إكراه ولا جبْر ولا قهر؛ فالإسلام يحمي من لم يؤمن به من العُدوان إذا سأله الجيرة، ويبلّغه مكانًا آمنا يطمئنّ فيه على نفسه وضميره وعرضه وماله وعقله: ((وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ)) (التّوبة: 6).. وفي منهج دفاع الإسلام عن حريّة الكفر، لمن لم يعْتدِ أو يظلم ويجور، مساحةٌ واسعة للأمـن النّفسي قبل الإيمان الطّوعي، ليكون الأمان قبل الإيمان بتأمين النّاس على حرّياتهم فلا تتجزّأ، ومنها “حريّة التّديّن” وحريّة رفض الدّين وردّه بغير عدوان ولا ظلم ولا هضم، بعد البلاغ والبيان والدّعـوة، وحماية الحرّيات من أن يدوسها جبّارٌ يُكره النّاس على طاعته وعلى عبادته ويضطهد المؤمنين ويقهرهم على الشّرك والكفر وعبادة الأوثان.

إذا حصل شيء من هذا انتفض الإسلام لحماية من يلوذ به من المستضعفين: ((وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا)) (النّساء: 75)، بهذا التّصوّر الواضح الصّريح يعرض الوحيُ المجيد بين يديْ كلّ هذه الحرّيات مبدأ عامّا هو حقّ للنّاس كافّة، أعني به: حقّ كلّ إنسان في أن يعرف ربّه من خلال كلامه عن ذاته وصفاته وأفعاله -جل جلاله- بمنْع الباطل من أنْ يحُول بين النّاس وبين حقّهم الفطري في التّعرّف على واجب الوجود -جل جلاله- ليعبدوه إن شاءُوا، ثم يتيح لهم بعد ذلك ما يختارونه لأنفسهم.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • يوغرطة

    يا سي بوقرة عليك ان تقول مثل هذا الكلام امام ملك السعودية سلمان بن عبد العزيز ال سعود ( القران الكريم يدعو للتحرر وحرية التعبير والفكر وغير ذلك ). كلمة حق امام سلطان ظالم جائر افضل من الدنيا وما حملت

  • دكتور

    لكن الله يحب الناهي عن المنكر أكثر من العابد السابح. هل تعتبر الذي خرب منضومتنا التربوية بضارب الصخر ؟؟