-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الحوار مع الآخر.. وسيلة وليس هدفا

سلطان بركاني
  • 462
  • 0
الحوار مع الآخر.. وسيلة وليس هدفا

لعلّ من أبرز مظاهر الغلوّ في فهم وتطبيق مبادئ الديمقراطية، مطالبة العلمانيين في بلاد المسلمين بفتح كلّ الأبواب –الإعلامية والثقافية- أمام جميع النّاس –على اختلاف مشاربهم وولاءاتهم- للدّفاع عن قناعاتهم والدّعوة إلى أفكارهم، مهما كانت مصادمة لثوابت الأمّة الرّاسخة، ومهما كان أصحابها لا يمثّلون سوى فئة قليلة شاذّة ممّن عطّلوا عقولهم عن كلّ تفكير نافع وبنّاء وراحوا يجترّون أفكارا طرحت في أوساط المجتمعات الغربية في فترات سابقة تدعو إلى التحرّر من هرطقات الكنيسة وإلى رفع القدسية عن المصادر النّصرانية التي طالتها أيدي التحريف؛ تجترّ هذه الفئة من العلمانيين العرب الذين توقّفت معرفة كثير منهم بالإسلام عندما تعلّموه في المدارس الابتدائيّة وما قرؤوه في كتب المستشرقين الحاقدين؛ تجترّ الأفكار والدّعوات الغربيّة، لتخوض معركة في غير ميدانها، غير مراعية للفرق الشّاسع بين النصرانية المحرّفة والإسلام المحفوظ وبين البيئة الغربية والبيئة الإسلاميّة.

لقد تأثّر بعض الإعلاميين في بلاد المسلمين بهذه الدّعوة التي تتستّر خلف الشّعارات البرّاقة؛ وانطلقوا يُعملون مبدأ “الحوار مع الآخر” من دون مراعاة لخصوصية بلدانهم، وتنافسوا في فتح صفحات جرائدهم وشاشات قنواتهم لكلّ من يُظهر المخالفة في المجتمع، ولو كان ممّن لا يكاد يَسمع به أحد غير أهله وندمائه، وكان يُظهر الخلاف جهلا واتّباعا للهوى ولهثا خلف الأضواء.

لقد فات هؤلاء الإعلاميين أنّه وحتى في أعرق الديمقراطيات الغربية لا تُوجَّه الأضواء نحو كلّ متطلّع إليها، ولا يسوّى بين المختلفين، ولا تُفتح أبواب الإعلام لكلّ من هبّ ودبّ، وإنّما يُعامل المختلفون بحسب تمثيلهم في المجتمع.. وفاتهم –الإعلاميين- الذين يحاول بعضهم تبرير صنيعهم بأنّ “الإسلام دين الحوار” وأنّ “القرآن دعا إلى جدال أهل الكتاب بالتي هي أحسن”؛ فاتهم أنّ الحوار الذي يحثّ عليه الإسلام إنّما هو الحوار مع من يطلب الحقّ فيلتبس عليه، ويُظهر الاحترام والأدب في مخالفته، وليس من يقصد الباطل رأسا، ويشتطّ في خلافه، لهذا استثنى القرآن “الذين ظلموا” من الذين دعا إلى مجادلتهم بالتي هي أحسن، حينما قال الحقّ سبحانه: ((وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون)) (العنكبوت، 46).

الحوار لا يكون مع من يجعل “كسر الطّابوهات” و”إسقاط الحواجز” و”تجاوز الخطوط الحمراء” هدفا وغاية، ومع من يُتوسّم منه البحث عن الأضواء واستدرار عطف الجهات المعروفة بالدّفاع عن المتجرّئين على الإسلام.. الحوار يكون مع من يكون هدفه البناء لا الإلهاء، مع من يحترم هوية الأمّة وقناعات الأغلبية بغضّ النّظر عن هويته وقناعاته، أما من لا يكاد لسانه ينطق بسوى الانتقاص والاستهزاء ويعترف بأنه ينتهج أسلوب “المواجهة بالصدمة”، فليس أهلا للحوار، لأنّه –في الغالب- لا يملك أيّ استعداد للتّراجع عن قناعته إن ظهر له خطؤها.. لقد جلد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- “صبيغ العراقي” الذي كان يسأل عن متشابه القرآن، ونفاه إلى البصرة وأمر بمقاطعته، حتى ذهب عنه ما كان يجده وثاب إلى رشده، ليس لأنّ عمر ومن كان معه عجزوا عن مناقشته وإفحامه، ولكنّ الفاروق –رضي الله عنه- الذي كان معروفا بفقهه ومعرفته بمعادن النّاس، أراد أن يُعمل القاعدة القرآنيّة ((وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين)) (الأنعام، 68)، ويعلّم من حوله أنّ الأمّة ليست ملزمة بالانشغال في كلّ مرّة بمن يريد إلهاءها عن مسيرتها، وأنّ النّاس ليسوا سواءً أمام الحقّ؛ فمنهم من تقنعهم حجّة الحق، ومنهم من تقنعهم قوته وسياطه. وفي حال كان الحقّ مهيض الجانب مكسور الجناح، فالأمّة ينبغي أن تُعمل مبدأ التّجاهل مع الأقزام المتطلّعين إلى القمم، وأعلامُ الأمّة ومفكّروها ينبغي أن ينشغلوا بالبناء وبالردّ على من يستحقّ الردّ، من دون الحاجة إلى رفع قدر من حقّه أن يُوضع.

الحوار مع الآخر ليس هدفا مقصودا لذاته، يتبنّاه من يحترف إمساك العصا من الوسط ويطلب رضا المختلفين جميعا ويتماهى مع القناعات المتناقضة لأجل أن يفوز بلقب “المنفتح” و”الديمقراطيّ”، وإنّما هو وسيلة للوصول إلى الحقّ وإظهار قوته وزيادة اليقين به، ولبيان ضعف الباطل وإظهار سخافته والتّنفير منه، وأيّ حوار تكون نتيجته الإشهار للباطل وللمبطلين، أو تشكيك الأمّة في مسلّماتها وإسقاط الهيبة عن مصادرها ورموزها، فهو حوار يربك الأمّة ويعطّل مسيرتها في أحلك ظروفها.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!