-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الحَراك.. حتى لا تُهدر الفرصة مرة أخرى

أحمد بن يغزر
  • 1064
  • 0
الحَراك.. حتى لا تُهدر الفرصة مرة أخرى
أرشيف

تحتاج الشعوب في مسيرتها إلى أن تفحص وضعها وموقعها بين الحين والآخر، وهي بتحديد وضعها إنما تحدد علاقتها بماضيها، وتتلمَّس خيوط مستقبلها، وبناءً على ذلك تضبط خريطة تحركها في حاضرها، فالحاضر كما هو مستقبل الماضي، هو ماضي المستقبل، وبين المحطات الثلاث يتجلى اتجاه الخط الناظم لسيرها: أهو في اتجاه التقدم المتصاعد، أم التراجع المتدحرج، أم الجمود القاتل؟

تشكل المحطات الفارقة والأحداث الكبيرة في مسار أي أمة الفرصة المناسبة التي تتيح لهذا الفحص للموقع كل شروط النجاح والمصداقية، وإذا كان الأمر يتعلق بالجزائر فإن أهم محطة تاريخية لها في المئة سنة الماضية هي الثورة المباركة ضد الاستعمار الفرنسي (1954-1962) والتي تُوِّجت بإنهاء الوجود العسكري الفرنسي بالجزائر، واسترجاع السيادة بعد قرنٍ وثُلث قرن من فقدها، وإعادة ربط الشعب الجزائري بمجاله الحضاري العربي الإسلامي بعد تغييب قسري طويل.

ستظل هذه الثورة بحيثياتها وأهدافها ورموزها بالنسبة للجزائريين بمثابة الحدث المعياري الذي تقاس من خلاله كل التحولات، وعلى أساس البيان التأسيسي لهذه الثورة؛ أي بيان أول نوفمبر، تقيَّم كل الخطوات والنجاحات أو الإخفاقات، لكن هذا لا يعني أن نظل حبيسي نشوة هذه اللحظة التاريخية الفارقة، إن قيمة أي حدث تكمن في ما يبثه في وعي أجيال الشعب، وفي ما يعطيه لها من قدرة على تجديد الإنجاز باستمرار، والتطلع الحثيث لمراكمة المزيد من الإنجازات، ولذلك فإنه من حقنا بل من واجبنا اليوم أن نسأل: أين نحن من أهداف هذه الثورة العظيمة؟

لا يهدف هذا المقال إلى تقديم جوابٍ عن هذا السؤال، لكن الهدف هو اعتباره –أي السؤال- مرجعا في تحديد الموقع في مسار المراجعة الذاتية التي ينبغي أن تبقى مفتوحة باستمرار، وفي الوقت نفسه إلى محاولة استنباط العلاقة التي يمكن أن نربطها بين الثورة الكبرى، والمحطات التي تلتها في تفاعل المجتمع الجزائري مع واقعه.

ويمكن في هذا الإطار أن نرصد حدثين كبيرين معبرين، أولهما ما حصل في أكتوبر 1988 من انتفاضة شعبية تداخلت في تحريكها عدة عوامل، لبعضها علاقة بوصول النموذج الذي اختارته النخبة السياسية الحاكمة بعد الاستقلال لاستكمال مسيرة الثورة إلى حدوده، ولبعضها الآخر علاقة بالتوجه العالمي آنذاك للتخلص من الإيديولوجية الاشتراكية في أغلب الدول التي تبنت هذا التوجه كطريق للتنمية، بعد أن تبين أن تلك المراهنة لم تكن في محلها على الأقل في مخرجاتها الكلية.

لقد أتاح هذا الحدث فرصا واعدة لتعديل مسيرة الجزائر من خلال دستور 23 فيفري 1989 والذي فتح المجال أمام التعددية الحزبية بعد ثلاثة عقود من الأحادية، وأطلق مسار الحريات بشكل معتبر، ووجدت الإرادة الشعبية الحرة نفسها أمام فرصة تاريخية، لكن سرعان ما انتكست هذه المسيرة، وتحولت إلى كابوس ومأساة دامت عقدا كاملا دفع الجزائريون خلاله فاتورة باهظة من أرواح أبنائهم ومن مقدرات بلدهم، ولم يكن ذلك إلا نتيجة تنازع بين إرادة البقاء في السلطة بأي ثمن، وإرادة الوصول إلى السلطة بأي ثمن.

أما الحدث الثاني والذي لاتزال تفاعلاته مستمرة، فهو الحراك الكبير الذي بدأه الجزائريون في 22 فيفري2019، والذي تزامن بدوره مع حراك واسع للشعوب العربية منذ بداية العقد الثاني من هذا القرن، اختلفت تقييماته بين من يعتبره موجة ثانية من الربيع العربي تتطلع للتخلص من أنظمة الفساد والاستبداد، ومن لا يراه إلا تجسيدا لمخططات دولية أكبر، هدفها فرض واقع جيوساسي جديد في المنطقة يناسب مصالح القوى المهيمنة في العالم، وفق رؤية الفوضى الخلاقة التي بشرت بها الإدارة الأمريكية.

لم يكشف هذا الحَراك الشعبي الباهر عن كل مآلاته، لكنه عبَّر من خلال زخم شعبيته وسلميته وحضاريته عن فرصة أخرى أتيحت للجزائر لكي تستوي على طريق صحيح يقودها إلى مستقبل أفضل، وتصحيح كل الانحرافات التي رافقت الجزائر منذ استقلالها، والتي تجذرت وتمأسست في العهد البوتفليقي منذ 1999، ورغم أهمية ما تحقق منذ بداية هذا الحراك فإنه يبدو أن المنتظَر والمأمول في المخيلة الشعبية لايزال كبيرا.

أسوأ احتمال يمكن أن يؤول إليه هذا الحَراك هو أن يتحول إلى فرصة أخرى مهدَرة، وأن يعاد إنتاجُ كل الظواهر والظرفيات التي أخرجت الشعب الجزائري إلى الشارع بتسميات وبأسماء وبتغليف جديد، ربَّما مع بعض التعديلات والتحويرات تُـقدَّم كما لو أنها استجاباتٌ إلى أشواق الحَراك، وما هي في الحقيقة إلا تزييناتٌ شكلية لا علاقة بجوهر ما يتطلبه الوضع.

إن هذا المآل ليس في صالح الجزائر أبدا، قد يعطي عمرا إضافيا للمنظومة العميقة، وقد يمنح استقرارا خادعا، لكنه سيورث بالمقابل خيبة أمل وإحباطاً لدى قطاع عريض من الرأي العام خصوصا من الفئات الشابة التي راهنت على هذه الفرصة لصياغة مسار جديد، وأفق مغاير لما كان، وهذا يعني أن هذا الاحتمال ليس في صالح أحد، وعلى الجميع أن يدفع في اتجاه آخر لصيرورة الأحداث.

إن مسؤولية الحفاظ على الحَراك في صورته الوطنية والحضارية والسلمية منوطة بثلاثة أطراف بشكل أساسي:

أولا: مكوّنات الحراك بمختلف توجهاتها، وبتنوع آرائها، والتي فتح لها الحراك الشعبي مسارا متميزا لتناضل من موقع قوة، وحررها من كل ما كان يكبِّلها سابقا، لكن بدون أن يعطي تفويضا حصريا لأي منها لكي تتحدث باسم الحراك أو تدعي تمثيله، ولذلك يقتضي الحفاظ على الحَراك أن يتجنب الجميع أي محاولة لتسيير هذا الحراك أو مخرجاته لصالح هذه الجهة أو تلك، أو أي محاولة لتضمينه حمولة إيديولوجية معينة، لأن ذلك يعني باختصار وأد أهم خصائص الحراك التي جعلت الجميع، وخاصة في الأسابيع الأولى من اندلاعه، يلتفُّ حوله ويعطيه قوة الزخم والاستمرار والتأثير.

وهذا يعني عمليا أن الحَراك في شرعيته وفي طبيعة مطالبه هو ملكٌ لكل الجزائريين إلا من عاداه طبعا، وأن المنطقة التي تجتمع فيها كل أشواق الجزائريين ومطالبهم التي ليس حولها خلافٌ ولا نزاع هي فقط ما يمثل هوية الحراك، أما توجُّهات مكوناته فهي لن تمتلك هذه الصفة إلا عندما تزكيها الإرادة الشعبية الحرة السيدة بالشكل المعروف.

ثانيا: السلطة والمنظومة الحاكمة بمختلف مستوياتها ودوائرها، التي يقع عليها العبء الأكبر في التجاوب الفعلي والصادق مع مستوى الوعي الذي أبانه الشعب الجزائري في حراكه، وأن تقرأ بشكل صحيح اللحظة التاريخية التي توجد فيها الجزائر وما تتطلبه، وأسوأ ما يمكن أن يحدث على هذا المستوى هو أن يتم التعامل مع الحَراك بمنطق الاحتواء أو الالتفاف أو المراوغة أو المراهنة على الوقت…

لابدَّ أن يدرك عقل السلطة أن أزمة ثقة عميقة ترسَّخت لعقودٍ في وعي الشعب الجزائري، وأنه ليس من اليسير أن يتم تجاوز ذلك إلا بسياسات ثورية غير تقليدية يكون صوتُ الشعب مركزيا فيها، بعيدا تماما عن الوصاية وعن التلاعب بالإرادة الشعبية وعن سوء توظيفها بحجج واهية، وخاصة بعيدا عن سياسة “لنغيِّر كل شيء حتى لا يتغير أي شيء”.

ثالثا: النخب الواعية التي تملك القدرة على صناعة الرأي، وصياغة المعنى، وملاحظة الظواهر، والتفاعل الواعي مع التحوُّلات، وهي بهذه المواصفات تمثل ضمير الأمم، وملاذ الأمان وموطن أجوبة اليقين حينما تحل لحظات الخطوب والحيرة.

الأصل في هذه النخب أن تصدر من موقع العلم، فإن لم يكن فمن موقع النظافة الأخلاقية، فإن لم يكن فمن موقع رجاحة الرأي والعقل، فإذا تجمَّعت كل هذه المزايا في هذه الفئة فذلك هو المثال المبتغى، لكن كل هذه الصفات قد تصير بدون قيمة وبدون أثر إذا لم يكن لهذه النخب حضورٌ اجتماعيٌّ مؤثرٌ وفعالية ميدانية ناجزة، خصوصا في اللحظات الصعبة؛ لحظات التحول التي تحتاج فيها الأمم إلى أصوات الحكمة والعقل وحسن التقدير، وتلك هي المهمة الملحة التي تحتاجها الجزائر الآن من نخبها الواعية.

إن المطلوب من هذه النخب أن ترافق الشعب الجزائري في حركته، وأن تكون خير مترجم لطموحاته، وأن تعطي السُّمك الفكري والثقافي للّحظة التاريخية التي يعيشها، وهي إذ تفعل ذلك فإنها تحمي هذه الفرصة التي أتت بعد فرص من الهدر مرة أخرى.

طبعا الشعوب لا تعيش لحظات فارقة في سيرها كل يوم، ولذلك عندما تصنع هذه اللحظات فإنها تعمل على استثمارها بأقصى حدٍّ ممكن لتحقيق ما تريد، فإن استنفدت غرضها من ذلك فإنها تعمل على تخليدها في ذاكرتها لتبقى نقطة مضيئة في مسيرتها، واعتقد أن حَراك الشعب الجزائري يحتاج حاليا إلى الأمرين معا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!