الرأي

الدستور.. ليس النهاية!

أرشيف

لقد نجح مشروع الدستور حتى الآن في شقّ طريقه البرلماني قبل المحطة الأخيرة للاستفتاء، إذ تعود الكلمة الفصل للشعب الجزائري دون وصاية من أي طرف في السلطة أو المعارضة، وعلى الجميع حينها القبول بالإرادة الجماعية للجزائريين في كنف الشفافية والنزاهة الانتخابيّة، لأنه لا يمكن بناء جزائر جديدة على أسس هاوية أو هشّة تتجاوز رغبة المواطنين.

مهما كانت مقترحات التعديلات النهائية للإصلاح الدستوري، فلا شك أنها ستثير الجدل والاعتراض لدى البعض، لأن الاختلاف من طبيعة العمل السياسي ومقاربات التغيير.

لذا نعتقد أنه يكفي الاتفاق على ضرورة صيانة الهويّة الوطنية ضمن التكامل والتنوع الجامع واعتماد قواعد دستوريّة توفر آليات صارمة في ممارسة الرقابة والمحاسبة للمسؤول في كافة المستويات، وتبعًا لذلك تضمن تكريس شروط التداول السلمي على السلطة، مع بسط مناخ الحريات الفردية والجماعيّة ضمن حدود الصالح العام، وكذلك كبح التلاعب بالقوانين مهما كانت درجتُها، وهو ما عبَّر عنه رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبّون بالتأكيد على ضرورة “التحلي بالواقعية والابتعاد عن الانغماس في الجزئيات والشكليات، على حساب الأمور الجوهرية ذات العلاقة بالأسس الدائمة للدولة”.

إنّ هذا الإقرار لا يغلق باب النقاش والاجتهاد أمام النضال السياسي لتحسين شروط الحريات والديمقراطية، لأنّ السلطة جامحة بطبيعتها دوْمًا نحو التغوّل والاستبداد، وهو ما يفرض تقييدها إلى أقصى حدّ من باب التحوّط، غير أنّ ذلك لا يعني أبدا السقوط في وحل الحواشي والاستغراق في تقليب حواشي الحواشي بلغة المشتغلين على التراث.

إنّ ما يطفو هذه الأيام من نقاشات تشارك فيها حتّى رموز النخبة على مواقع التواصل الاجتماعي، تتعاطى للأسف بمنطق تجزيئي مع مشروع الدستور، حيث تبني مواقف حادّة بالقبول أو الرفض من الوثيقة، فقط لمجرد إثبات أو إلغاء مادة معيّنة، بينما يُفترض النظر إلى الموضوع من منظور كلّي تكاملي متوازن دون إفراط ولا تفريط، باعتبار إرضاء توجُّهات الجميع غاية لا تُدرك، والعبرة في ذلك بالاتجاه العامّ.

ومهما كانت المواقف من المشروع، فإنَّ الفرصة لا تزال كبيرة لإسناده أو مقاومته عبر التعبئة الشعبية للمواطنين قبل موعد الفاتح من نوفمبر المقبل، وذلك ما يفرض على السلطة السياسيّة وُجوبا فتح الحقل الإعلامي أمام جميع الأصوات للتعبير عن نفسها، في كنف الحوار المجتمعي الحضاري الراقي بين الرأي والٍرأي الآخر.

إنّه، وبقدر ما يُشبع الإصلاح الدستوري بالنقاش في كافة الاتجاهات، سيُكسبه ذلك ثراءً وعمقا ومناعة في المستقبل من التعديلات المزاجيّة أو الاضطرارية، فضلا على أنه يمنحه المصداقية اللازمة لنيل الشرعية الشعبية والقدرة على الصمود أمام الطوارئ اللاحقة.

بالمقابل، فإنّ أيّ انغلاق على الرأي الواحد الذاتي سيكون مُسيئا للإرادة السياسيّة المعلنة في صياغة دستور توافقي وخادشًا لصورة الجهود المبذولة طيلة شهور في النقاش العام والتشاور مع مكوِّنات الساحة الوطنية، لأجل إشراكها في مسعى البناء الوطني الجديد.

والخلاصة أنّ الدستور المرتقَب، مهما كثرت عيوبه، مع أنه يحمل أضعافها من المحاسن، لن يكون وحده الحلّ السحري لأزمة البلاد المتراكمة منذ عقود، لأنّ المشكلة المزمنة أعمق من النصوص، بل هي معضلة لصوص يدوسون على القوانين في كل المراحل وينسجونها على مقاسهم ويفسِّرونها على هواهم، لأنهم لا يرتدعون في غياب أيِّ سلطة مضادَّة.

وعليه، فإنّ الطريق للخروج الفعلي من المأزق لن يكون إلا بتوفّر إرادة حقيقية جماعية من النخبة الحاكمة وقادة المجتمع في أن ننتقل إلى عهد جديد من دولة القانون والحكم الراشد وتحرير طاقات البلد المعطلة وتقديم خدمة وطنية للأجيال، تضع الجزائر على سكة العبور نحو المستقبل الآمن في القرن والواحد والعشرين.

أيّ أنّ الدستور القادم، حتّى بقواعده المقترحة حاليّا، لن يكون عقبة البتّة أمام جزائر جديدة مختلفة عن سابق عهودها، كما أنّ دستورا آخر على أعلى طراز من المثالية، مُجتبى من أحسن الدساتير العالميّة لن يضمن لبلادنا التخلّص من حالها المتعثّر لو غابت الإرادة الفعلية في التغيير النزيه من القائمين على السلطة والطامحين في بلوغها على السواء.

وعليه، فإنّ المشوار يبقى مفتوحًا وطويلاً وشاقًّا أمام الجزائريين على اختلاف مواقعهم للتأسيس لمرحلةٍ جديدة من مسار الدولة الوطنية الحديثة.

مقالات ذات صلة