-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الدكتور عبد العزيز شوحة.. مفكّرٌ عزيز النظير فقدناه

الدكتور عبد العزيز شوحة.. مفكّرٌ عزيز النظير فقدناه

أخذني رحيل الصديق الدكتور عبد العزيز شوحة (17 يونيو 1961/ جوان 2022م) إلى الخلف بعد أن أدار دورات الزمن دورانا عكسيا، وأعادني إلى عهد المدرسة الابتدائية التي جمعتنا، وهو عهد بعيد مقارنة بعمر الإنسان؛ ففي مدرسة الشهيد أوشن الطاهر التي لم تكن بهيئتها التي هي عليها اليوم تعرَّفت عليه لأول مرة.

لا يُخفى إعجاب الدكتور عبد العزيز شوحة بأفكار المفكر الجزائري مالك بن نبي، رحمه الله، إعجابا فريدا وشديدا، ولذلك مدّ خيطا تواصليا فكريا مع كتاباته. ولم يكن يتوقف أثناء قراءة مؤلفاته عند حدود محاولة الاقتيات منها واستيعاب ما يطرحه فيها من أفكار، وإنما كان يجد لها اسقاطات للتوضيح في كل المراحل التي مرت بها الحضارة العربية الإسلامية منذ بزوغ فجر الإسلام، ويشكل لها روابط مع بقية الحضارات التي سبقتها أو تزامنت معها.

مازلت احتفظ في مخيلتي بصوره في عهد طفولتنا، وقد كان طفل شاحب البنية الجسمية، قليل الحركة، وقلما يشارك أقرانه اللعب، وكان هادئ الطبع، خلوقا وصموتا، غير مشاكس ومتسامح ولا يهوى الخصومات. وكانت صفة الحياء التي تكسوه غالبة عليه. وكان إذا تحدّث، وهو شحيح الكلام، كما قلت، لا يتحدث إلا بصوت خافت مهموس. وإذا قابله أحدهم، وتكلم معه، لا يقوى أن يحدق في وجه، وإنما يرمي ببصره ويلقي به مسمَّرا في نقطة من الأرض. وقد لازمته هذه الصفة، واستمرت معه حتى بعد أن سار به العمر. وكان لا يظهر في أزقة الحي الذي نسكنه وفي ميادين اللعب التي نقصدها في أيام الراحة إلا قليلا. وأما من حيث التحصيل الدراسي، فلا أستطيع أن أجزم، لأنني لم أزامله في القسم، وكنت أتقدّمه بثلاث سنوات. ولكني، لا أشك قطّ أنه كان تلميذا على درجة كبيرة من النجابة والذكاء.

قضى الدكتور عبد العزيز شوحة كل مراحل تعلّمه من المرحلة الابتدائية حتى حصوله المستحق على درجة الدكتوراه في مدينة باتنة. وبها مارس التعليم في المرحلتين الثانوية والجامعية. وأما الإمامة فقد تولاها في مسجد بلدة تازولت العتيق لفترة وجيزة.

بدأ اسمه يملأ الأسماع في المرحلة الأولى من دراسته في جامعة باتنة، أي في مطلع ثمانينيات القرن الماضي. وكان من نشطاء مسجد حي الطلبة. ولا يتوقف عن المشاركة مع ثلة نشطة من زملائه في تقديم الدروس وإلقاء المحاضرات ذات البُعد التكويني الراقي.

وهب الأخ الدكتور عبد العزيز شوحة ذاكرة حافظة قوية لا تُبارى. وبفضل ذلك، استطاع أن يأتي على حفظ المصحف الشريف في فترة زمنية قياسية لم تتعدَّ عدة أشهور، وأن يستظهره عن ظهر قلب استظهارا دقيقا صحيحا. وأن يُرفق حفظه بقراءات مركَّزة وواسعة في مجلدات تفاسيره قديمها وحديثها، وأن يتعمق في فهم آياته، واستنكاه أسرار ألفاظه، واستجلاء معانيها، والوقوف على عمق بيانها. وكان إذا تحدث في أي موضوع يجد سلاسة وسهولة في التنقل بين سور القرآن الكريم لاستحضار الاستشهادات التي يوضح بها مقاصده أو يمتِّن بها آراءه ويدعمها.

لا يُخفى إعجاب الدكتور عبد العزيز شوحة بأفكار المفكر الجزائري مالك بن نبي، رحمه الله، إعجابا فريدا وشديدا، ولذلك مدّ خيطا تواصليا فكريا مع كتاباته. ولم يكن يتوقف أثناء قراءة مؤلفاته عند حدود محاولة الاقتيات منها واستيعاب ما يطرحه فيها من أفكار، وإنما كان يجد لها اسقاطات للتوضيح في كل المراحل التي مرت بها الحضارة العربية الإسلامية منذ بزوغ فجر الإسلام، ويشكل لها روابط مع بقية الحضارات التي سبقتها أو تزامنت معها. وكان يكلف نفسه حفظ فقرات مطوّلة منها وهضمها هضما تفكيكيا كما تهضم الأغذية في الجهاز الهضمي وتحوّلها من مغذيات كبرى إلى دقائق صغرى تستفيد منها خلايا الجسم. وفي اعتقادي، لو أسعفته الفرص، والتحق بإحدى الخلوات التي تمارس التعليم التقليدي لحفظ كثيرا من المتون القديمة على عهد السابقين في مختلف العلوم المقررة بحواشيها وهوامشها وشروحها وتعاليقها.

من أطال الأحاديث مع الأخ الدكتور عبد العزيز شوحة، رحمه الله، يدرك أنه كان صاحب نظرات فكرية وإطلالات تأملية في شتى شؤون الحياة، وخاصة تلك التي تخص نشأة الكون وظهور الحياة وتنظيم العلاقات الاجتماعية والتعليم والسياسة والعلاقات الدولية والاستشرافات المستقبلية الحضارية المرتبطة بالإسلام. وهي نظرات ثاقبة ومقنعة؛ لأنه يحسن استجماع الظروف المعنوية والمادية التي تقوِّي آراءه، ويملك قدرة رفيعة على توظيف التاريخ والسُّنن التي تفعل أفاعيلها في حصول أحداثه وتواترها. وكان همّه الأكبر هو النظر في كيفية جمع أسباب ومقدمات إنهاض الأمة، وتخليصها من الغيّ، وتنقيح طريقها من معوّقات التيه وأعطاب الدهر وقواهره، وتحرير المشَّائين فيها من نزعات التردُّد وشوائب الفرقة التي عرقلت المسيرة، وأبطأت الخطوات، وحرفت المسار، وكادت أن تنسف الأهداف المنشودة.

لا أخفي أنني لم أجد إجابة ولو تبريرية مقنعة لسؤال لا يجوز القفز عليه أو تجنبه كلما نظرت في مسار الأخ الدكتور عبد العزيز شوحة، وفحوى سؤالي هو: كيف لم يستفد من موقف أستاذه الأول والمفضل مالك بن نبي الذي ارتأى عدم الارتماء في المستنقع السياسي حتى لا يحترق بلهيب نيرانه ولم ينغمس فيه انغماسا كليا؟ مع العلم أن المفكر مالك بن نبي لم يكن مفكرا نظريا، وإنما كانت أفكاره حركية ومشدودة إلى أرض الواقع وإلى ساحات وميادين التطبيق العملي، وتبحث عن منابت لنفسها فيها حتى تنمو نموّا مزهرا يحقق المشاهد التغييرية المرجوة. وهذا هو المنحى العام، فيما أرى، الذي يوجِّه حركة أشرعة أفكاره ويقود سفينتها، ويرسم ملامحها.

لم يمر تضبّب سماء الجزائر وتلبّدها بردا وسلاما على الأخ الدكتور عبد العزيز شوحة. ورغم العناء النفسي والجسمي والقطيعة التي قابله بها بعض تلامذته ومقرَّبيه والتي آلمته كثيرا في مرحلة ابتلائه، إلا أنه استطاع أن يحافظ على وهج عقله، وإبقائه متقدا ومنشغلا بحمولة الهموم الفكرية التي ظلَّت تخامره حتى رحيله. وقد زادته التجربة المكتسَبة والوقفات النقدية والتقويمية الذاتية التي قام بها نضجا ووضوحا وإشعاعا. وظل يتحدث في الناس كافة عن أساليب الترشيد وأدوات الاستفاقة النهضوية المشروعة والحتمية التي لا ينفع معها الغموض والاستعجال.

لم يفرط الدكتور عبد العزيز شوحة، رحمه الله، في مواصلة بحثه العلمي الأكاديمي، واستطاع أن يتقدم إلى جامعة باتنة برسالة ماجستير. وبعد سنوات أعقبها برسالة دكتوراه وسمها بعنوان رئيس هو: “منهج الاحتجاج اللغوي للقراءات القرآنية”، وبعنوان فرعي تفصيلي هو: “موازنة بين كتابي: الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها لمكي بن أبي طالب القيسي وشرح الهداية في توجيه القراءات للمهدوي”. وكنت كتبت في الحين مقالة تعريفية متواضعة عن هذه الرسالة التي شدّت انتباه المهتمِّين، واستحضر مما أوردته فيها قولي الآتي: (قارب الباحث عبد العزيز شوحة موضوع رسالته الذي تعدُّ سنداته المسخَّرة تراثية بأدوات منهجية حداثية، ولم تقو المفاهيم العتيقة على الوقوف عقبة في طريقه بعد أن قتلها شرحا وأشبعها توضيحا بما في ذلك المفاهيم المفتاحية التي شيد بها العنوان، وأبرز الخيوط الرابطة بين نسقها البنائي ونظامها الذي ألفته في الفهم وفي التأويل. وكان مسهبا في إيراد الأمثلة التوضيحية التي تجعل هذه المفاهيم تكتسي حلل معانيها القديمة التي قد لا تتفق مع معانيها المتداولة حاليا، فالتوجيه، على سبيل المثال وكما عرّفه، هو رد الاختلافات اللغوية واللّهَجية التي برزت مع أداء النص القرآني وتلاوته إلى أصولها والقبائل التي نطقت بها). (أنظر عدد جريدة “الشروق اليومي” ليوم 14 أفريل 2020م).

كان المفكر مالك بن نبي شديد الاهتمام بالكتابة والتدوين رغم أن الكتابة في عالم الأفكار عملية مجهدة وشاقة، وبذلك سجّل حضوره في أروقة ومنابر الحياة الفكرية على المستوى العالمي. ولكن تلميذه الدكتور عبد العزيز شوحة كان مشدود الأيدي مقارنة به من حيث المساهمات الكتابية. وقد يكون ارتفاع تكاليف الطباعة وغلائها سببا مانعا أقعده. ومع ذلك، فقد خلّف عددا من المقالات موزعة بين بعض الجرائد اليومية والأسبوعية والمواقع الإلكترونية كتبها في أزمنة متفرقة. ولو تُجمع مقالاته المتفرِّقة ويضاف إليها ما كتبه من مواضيع بطلب من بعض الجامعين المتسلقين والانتهازيين الذين نشروها بأسمائهم لتغطية عجزهم والاستفادة منها للحصول على ترقيات في سلم الرتب الجامعية تخدم جيوبهم، لعادلت أعماله المدوّنة حجم كتابين أو ثلاثة، حسب ما أتصوّر، على أدنى حساب.

لا نخطئ التقدير عندما نقر أن الأخ الدكتور عبد العزيز شوحة هو طاقة من بين الطاقات النخبوية الفكرية في وطننا التي لم توفَّر لها شروط البروز بقدر أكبر في نطاقات مختلفة منطلقة من المحلية إلى العالمية. وإننا نقرأ في رحيله المفاجئ حجم الخسارة المتكبدة التي يصعب تعويضُها. وقد نجاري الصواب لو اعتبرنا أن الظروف التي أخرجت المفكر حمودة بن ساعي أستاذ المفكر مالك بن نبي إلى هامش الحياة قد تكرَّرت ثانية من دون أن تتشابه تماما حتى تحرم تلميذه وابنه الروحي المفكر الدكتور عبد العزيز شوحة من تلألئ نجمه في عالم الفكر على نطاق واسع.

رحم الله الأخ الصديق الدكتور عبد العزيز شوحة الذي دانت له قلوب الكثيرين بالمحبة والتجلّة، وشمل والدته المكلومة بأسباب الصبر الجميل.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!