الرأي

الدّعاة الجدد وتجديد الدّين

سلطان بركاني
  • 3750
  • 0

في تقريرها الصّادر سنة 2007م، شدّدت مؤسّسة راند الأمريكيّة للأبحاث الاستراتيجيّة، على ضرورة تشجيع الدّعاة الجدد، الذين ينشطون خارج الإطار الرّسمي، لوضع رؤًى إسلامية جديدة، تصبّ في تقبّل الليبرالية والعلمانية، بما يُنتج إسلاماً جديداً “منفتحاً ومعتدلاً”، يجري نشره وترويجه بين العامّة، ليكون بديلا للإسلام “الأصوليّ”.

هذا التوجّه الأمريكيّ لم يكن وليد هذا التّقرير، وإنّما جرى العمل عليه بُعيد أحداث الـ11 سبتمبر 2001م، بالتّعاون مع الحكومات العربيّة والإسلاميّة التي سهّلت تنامي ظاهرة الدّعاة الجدد، ووفّرت لهم الوسائل والإمكانات ليؤدّوا الدّور المنوط بهم على أكمل وجه.

تجديد الخطاب الدّينيّ أم تجديد الدّين؟

لقد استطاع الدّعاة الجدد الذين جرت صناعتهم على عين الغرب، وتحت الرعاية السامية للأنظمة العربيّة، اكتساح الأوساط الشّبابية، ليس بجودة بضاعتهم، ولا بعمق أفكارهم، وإنّما لأنّهم يقدّمون إسلاما جديدا لا يعارض أهواء النّفوس، ولا يدعوها إلى مجاهدة نوازعها الأرضيّة، ولأنّهم يتستّرون خلف شعارات برّاقة، من أكثرها جاذبيّة شعار “تجديد الخطاب الدّينيّ”، الذي يخفي خلفه الدّعوة إلى إعادة النّظر، ليس في شكل الخطاب وطريقته فحسب، وإنّما أيضا في مضمونه، بتبنّي آراء واختيارات جديدة، تبيح كثيرا من المحظورات، وتكسر بعض الطّابوهات، اعتمادا على شواذّ الأقوال المنسوبة إلى العلماء، وعلى الضعيف من الفُهوم والاستنباطات، إضافة إلى محاولة تحجيم دور الدّين في كثير من مناحي الحياة العامّة والخاصّة، وإلغاء دوره في الحياة السياسية، وتحييده عن التدخّل في كثير من قضايا الشّأن العامّ، وبعض الخصوصيات المتعلّقة بما أصبح يدرج في خانة “الحريات الفردية والشّخصية”.

دينٌ للخنوع في زمن الصّراع والتّدافع!

يسعى الدّعاة الجدد إلى تقديم رؤية جديدة للدّين، لا يهمّهم كثيرا أن تكون موافقة لنصوصه، بقدر ما يهمّهم أن تلقى القبول في الأوساط العامّة، وفي الأوساط الرّسميّة والغربية؛ نظرة تقوم في الأساس على طمس معالم التميّز في الإسلام، خاصّة ما تعلّق منها بعقيدة التّوحيد والولاء والبراء، ونهج التّضحية والفداء، لصالح مبادئ فضفاضة على شاكلة مبدأ “الأخوة الإنسانية”، ومبدأ “من ضرب خدّك الأيمن فأدر له الأيسر”، الذي يراد للمسلمين وحدهم أن يعملوا به، وهم يرون مقدّساتهم تستهدف، وأراضيهم تسلب وأعراضهم تنتهك!

تناقضات تكشف الحقيقة

الدّعاة الجدد لا يهتمّون كثيرا بتوجيه الشّباب للاستفادة ممّا توصّلت إليه الحضارة الغربيّة في المجالات العلميّة والمعرفيّة، لإصلاح دنياهم ودنيا أمّتهم، والاعتزاز بدينهم وبمبادئه وتشريعاته التي شهد لها المنصفون في الشّرق والغرب، والدّعوة إليه، مستعينين بخطاب يزاوج بين نصوص الشّرع ومبادئه، وبين الاكتشافات العلمية الحديثة التي تثبت عظمته، وتعطي الأدلّة القاطعة على أنّه من لدن عليم خبير، كما أنّهم لا يبدون أيّ اهتمام بتنقية التّراث الإسلاميّ ممّا شابه من لوثات باطنية وطقوس قبورية، وممارسات بائدة، تشين عقيدة التّوحيد، وتعارض العلم والعقل والفطرة، ولا بتخليص الإسلام من عقائد الغلوّ الفاحش في البشر، ورفعهم فوق مصافّ الأنبياء، ووصفهم بصفات ليست إلا للخالق سبحانه، ومن عقائد اللّعن والطّعن والثّارات، التي تُترجم إلى ممارسات تدفع الأمّة فاتورتها الباهظة، ولا يظهرون أيّ حماس في انتقاد المصادر الموبوءة التي تؤسّس لهذه الانحرافات؛ لكنّهم يركّزون جهودهم، ويَبْرون سهامهم لاستهداف مصادر السنّة الصّحيحة، تحت مظلّة الدّعوة إلى تنقية التّراث، منطلقين في حملاتهم هذه من التّشنيع والتّشغيب على بعض الرّوايات التي تَعذّر على عقولهم فهمهما وفهم ملابساتها، ولم يكلّفوا أنفسهم شيئا من عناء الرّجوع إلى الكتب التي تخصّصت في تأويل مشكل الآثار، وبيان مدلولاتها، اعتمادا على مناسباتها وملابساتها وطرقها ورواياتها.

والعجيب في أمر هؤلاء الدّعاة، أنّهم وفي الوقت الذي ينادون فيه بغربلة التراث الإسلاميّ، فإنّهم لا يجدون أيّ حرج في الاستنجاد بمرويات تراوح بين المتردية والنّطيحة للتوصّل إلى الطّعن في رموز الأمّة من الصّحابة والتّابعين والأئمّة العاملين، وما صحّ منها، فإنّه لا يمثّل شيئا إذا ما قورن بما استفاض عن أولئك الأخيار من حرص على طلب الحقّ ونصرة للدّين وأهله، وبما تواتر من نصوص محكمة صريحة، تثني على الصّحابة الأبرار خاصّة.

يأتي هذا الموقف من هؤلاء الدّعاة في مقابل تورّعهم في الحديث عن متولّي كبر المؤامرات التي حيكت لأمّة الإسلام، على مرّ القرون، لإفساد دينها ودنياها، ممّن تزيّى بزيّها، ودسّ لها سمّ الأساود في الشّهد، من مؤسّسي ومروّجي المذاهب الهدّامة، بدءًا من الباطنية، وليس انتهاءً بالليبرالية والعلمانيّة.

كما يعتمد الدّعاة الجدد على محاولة تعميم الأخطاء التي حدثت في التاريخ الإسلاميّ وتوسيع النّقاط السّوداء التي تخلّلته، للوصول إلى رسم صورة مظلمة حالكة عن هذا التاريخ، ومن ثَمّ إسقاطه، لصالح جهات علمانية وغربية، يعجبها أن تُقطع صلة هذه الأمّة بماضيها.

وباختصار، فإنّ هؤلاء الدّعاة يسوّغون للشّباب القبول بوضع الإسلام -دون غيره من الأديان- في قفص الاتّهام، ويصوّرون لهم بألا سبيل إلى إخراجه من هذا القفص إلا بإعادة النّظر في مصادره ومحاكمة رموزه ورجالاته، ويغرونهم بتبنّي منهج تشكيكيّ يحرّضهم على المسلّمات والمتواترات، ويسوّل لهم ردّ كثير من مسائل الإجماع والاتّفاق، بل ورفض أو تأويل بعض نصوص الشّرع، ليس اعتمادا على أصول عقلية واضحة، وإنّما رضوخا لعقول مترفة تستنكف عن البحث والتّنقيب، ولأهواء جامحة تنشد الأضواء في التمرّد على القيود والقفز على الحدود، وتتبنّى شعار “خالف تعرف”.

ولعلّ ممّا يكشف حقيقة هؤلاء الدّعاة الجدد، الذين يتمترسون خلف العقلانيّة والحداثة، وبخاصّة منهم أولئك الذين اشتهروا بالطّعن في العلماء والدّعاة، ووصفهم بالتخلّف والبلادة والخبل، أنّ بعضهم لا يجدون حرجا في الاستعانة بالخرافات والخزعبلات، كلّما تعلّق الأمر بالحديث عن ذواتهم، ومن ذلك أنّ أحدهم وفي فورة اعتزازه بنفسه، لم يجد حرجا في الادّعاء بأنّ ملكا من الملائكة نزل عليه ليساعده في نقاش فلسفيّ، وأنّ ملكا حرّك يده على السبورة ليجيب بالإجابة الصحيحة التي لم يكن يعرفها، كما زعم في مواضع أخرى أنّه حاور الجنّ، وأنّه وجد ثمن كتاب كان يتمنّى اقتناءه تحت قدمه قبل 30 خطوة من المكتبة، وأنّ القلم عاد ليكتب في يده بعد أن نفد حبره وكسره ورماه!!! إلى آخر ما هنالك من المخاريق والخزعبلات التي يشنّع على غيره فيما هو دونها.

وماذا بعد؟

إنّنا نهيب بشبابنا أن يعوا جيّدا بأنّ القضيّة ليست قضية تحرّر فكريّ أو عقليّ، وإنّما هي قضية دين عالميّ جديد يجري التّرويج له، تحت مسميات براقة ودعاوى خادعة، وأن يتروّوا في التّعامل مع ظاهرة الدّعاة الجدد، ويتفطّنوا لحقيقة الأهداف التي ينشدها هؤلاء الدّعاة، وإلى الجهات التي يعملون لصالحها من حيثُ شعروا أو لم يشعروا، وأن يدركوا أنّ هذا الدّين دين علم وفقه وقواعد وأصول، لا تحصّل إلا بالتّعب والنّصب والجدّ في الطّلب، ورحم الله الإمام ابن سيرين الذي كان يقول: “إنّ هذا العلم دين، فانظروا عمّن تأخذون دينكم”. 

مقالات ذات صلة