-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الذهاب إلى أعراس الذهب

عمار يزلي
  • 861
  • 0
الذهاب إلى أعراس الذهب

منذ 38 سنة، لم تعرف مدينة وهران مثل ما تعرفه اليوم في سهراتها المسائية والليلية، وإن كانت احتفالات سنة 1984، بمناسبة الذكرى الـ30 لاندلاع الثورة التحريرية، تختلف عن 2022، من حيث الظرف التاريخي والمناسبة والدافع لتنظيم تلك الفعاليات.

 أضئيت وقتها شوارع وهران الكبيرة بكل أنواع الألوان والكرات الضوئية المتلئلئة، المستورَدة من إيطاليا، خاصة شارع العربي بن مهيدي والأمير عبد القادر، ثم ساحة أول نوفمبر، مع المسرح الجهوي، ومسرح الهواء الطلق.

كانت التظاهرات الثقافية التي برمجت وقتها تفوق كل ما برمج في السابق، والسبب كان البحث عن “الترفيه عن المواطن الذي تعب مع سنوات الغلق الاشتراكي والمنع والندرة والضغط وخنق حرية التعبير”. هذا هو العنوان الحقيقي لاحتفالات المخلدة للذكرى الـ30 لاندلاع الثورة.

ما قبلها، كانت شوراع وهران، الباهية، باهتة، شبه مظلمة، قاتمة في بعض الجهات المهمَّشة والهشة، حزينة في بعض الجيوب، تذكّرنا بوصف “ألبير كامي” لها في روايته “الطاعون”، والتي يقول فيها عن المدنية، إنها لم “تكن تلك المدينة الجميلة”، وهذا على خلاف “تيبازا” التي كتب عنها “أعراس تيبازا”.

صحيحٌ أنه لا يمكن اعتماد رواية  “كامي” روايةً مرجعية، لكن انتشار وباء الطاعون فيها في الأربعينيات من القرن الماضي، كان يؤهِّلها إلى أن تكون مدينة كولونيالية غير جميلة بالمرة بما يتجلى فيها من تناحر طبقي وسياسي وفقر وغنى في نفس الوقت، وبما توحي الصورة في الرواية إلى أن زمن التغيير قادم وفي القريب العاجل.

 لعل “كامي” لم يكن يقصد ذلك، لأنه لم يكن لا ثوريا ولا حتى ليبيراليا، بل كان يساريا مرتبطا بالنظام الاستعماري بصفة أو بأخرى، وإلا لما حاز على جائزة نوبل.

مدينة وهران تعرف اليوم نفس الوهج والديناميكة منذ بدء فعاليات الدورة 19 لألعاب البحر الأبيض المتوسط. توهّجٌ خفت وخمد منذ 38 سنة، أي منذ جيل بأكمله. ذلك أنه بعد 84، جاءت الأزمة الاقتصادية وفرغت جيوب الخزينة الوطنية بفعل المصاريف والاستيراد غير العقلاني وغير الراشد ووجدنا أنفسنا بعد أربع سنوات أمام أزمة 5 أكتوبر 88.

وعليه، نرى أن احتفالات الذكرى الـ30 لاندلاع الثورة التحريرية، بقدر ما كانت رغبة في امتصاص الضيق الشعبي والتضايق السياسي والحنق الاجتماعي والكدر النفسي والاحتقان العامّ، كانت تعمل على تغطية عجز نظام الحزب الواحد على المضيِّ في الحكم: حزب لم يتجدد ولم يتعدد وحان الوقت لكي يتبدد. عنوان تلك الأضواء والبهاء والترف والأعراس الليلية الضخمة كان آخر ما عرفته وهران من نشاطات وحركية ترفيهية عن مواطنين وشعب في عمومه عبر كامل التراب الوطني، كان يعاني الاحتقان والاختناق في العيش وفي التعبير وفي التفكير. وكانت إذن تلك الاحتفالات إيذانا بزمن التغيير بعد أن كان قد مر على جيل الثورة الحاكم نحو 40 سنة. جيل الخمسينيات الذي كان عليه أن يتغير بعد 40 سنة، أي في 1990.. بحسب التعبير الخلدوني.

الحركية والديناميكية الشعبية التي عرفتها الجزائر بعد 2019، وبعد نحو سنة من الحراك ومطلب التغيير الذي أفضى إلى ما هو عليه حاليا، كان متوقعا بالنسبة لنا قبيل 2030، أي قبل نهاية الجيل الثاني للثورة، غير أن التعجيل بانطلاق قاطرة التغيير في الـ2020، جعل الجزائر تربح 10 سنوات من خسارات متتالية منذ 1990 وما تلاها من أزمات أمنية وسياسية واقتصادية متلاحقة.

أن ننظر اليوم إلى ساكنة وهران وهم يخرجون كل مساء وكل ليلة للاحتفال في الملاعب، وليس في القاعات المغلقة.. أقصد قاعات العرض الفني والثقافي، يفسر هذا التوجه اجتماعيا ونفسيا: الشعب الذي عانى لسنوات، منذ 1990، ثم ما بعد 2014 والعهدات الرئاسية المتجددة وحكم الأوليغارشيا، وانتهاء بانفجار 2019 والحراك الوطني ثم جائحة كورونا والغلق الصحي، كل هذا، دفع بالناس إلى البحث عن أمكنة وفضاءت للتسلية لتفريغ سنوات الكبت القهري. لهذا، نرى في وهران الساكنة يفضِّلون الفضاءات المفتوحة الرياضية التي تسمح لهم بالصراخ والصياح والهتاف بأعلى درجة، كما تسمح لهم بمتعة المشاهدة والألوان الطبيعية والأنوار والأضواء بعد الشعور بالظلمة والإسكات والتكتيم. بخلاف ذلك، نجد القاعات الفنية أقلّ إقبالا، كونها قاعات مغلَقة وتتطلب صمتا وسماعا أكثر من الاستمتاع بالمناظر الخارجية المفتوحة والحركة الانفعالية الطاردة للمكبوت.

هذا هو السبب في تصوُّرنا لهذا الإقبال الكبير لساكنة وهران على حضور فعاليات ألعاب البحر المتوسط دورة وهران 2022، والحضور المكثف والقوي للعائلات في الملاعب كل أمسية وكل ليلة، وفي كل التخصصات وليس فقط كرة القدم، كما كان حال ذلك سابقا، والذي كان الملعب هو عنوان الشباب الذكور دون غيرهم، المستعدين للمجازفة ولمواجهة لكل المخاطر حتى استقبال الحجارة على الرؤوس وضربات الهراوات عند المداخل وعلى الجدران المتسلَّقة من طرف الشباب المغامر الباحث عن المتعة ولو بالألم.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!