-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الرؤية.. أو العَمى!

الرؤية.. أو العَمى!

نتطلع إلى أداء سياسي فعال قادر على استشراف المستقبل، ويريدون منّا البقاء حبيسي ممارسات عفا عنها الزمن لا تعرف سوى العيش في الخفاء والحركة في الظلام.. نريد أن نصوغ “سيناريو ـ مرجعي” لجزائر الغد بمشاركة الجميع، ولا يريدون سوى تكرار نفس السيناريوهات القديمة؛ وكأن كل العقود الماضية لم تغير في واقعنا شيئا، وكأن أكثر من نصف قرن من الزمن لم يفلح في الانتقال بتفكيرنا من أسلوب المناورة والمغامرة والمقامرة وردود الفعل إلى منهج الرؤية المدروسة والفعل المتبصر القادر على صناعة المستقبل الذي نريد..

في الوقت الذي كان يُفترض فيه أن تكون الانتخابات الرئاسية فرصة للنخبة والأحزاب السياسية والشخصيات الوطنية، والطبقة السياسية بشكل عام، تُراجع فيها نفسها لتطرح بدائل للمستقبل تشد إليها أنظار الناس أو تكون سببا في تشكيل إجماع معين حول قضايا وطنية مصيرية، كطبيعة الدولة وكيفية استمرارها في ظل التهديدات الجديدة من حولها، وكيفية بلورة سياسات عامة جديدة بإمكانها أن تحل إشكالية التخلف القطاعي في بلادنا إن في التعليم أو الصحة أو الإنتاج… الخ، انحرف الجميع إلى مناقشة مسائل لا ينبثق عنها سوى الصراخ والعويل، بين مشكك ومكذب ومندد وحتى ساخر من نفسه قبل أصحابه وهو لا يدري …

إننا لسنا اليوم في حاجة إلى فتح مثل هذا النوع من النقاش، بل إلى نقاش آخر من مستوى آخر من خلال كفاءات وطنية قادرة على تقديم حلول وسيناريوهات للمستقبل لعلها تساهم في إخراج بلادنا من حالة التخلف الاقتصادي والاجتماعي التي هي فيه، أي لسنا في حاجة إلى فريق ينتصر على آخر ليخرجه من اللعبة تماما، أو لفريقين يتصارعان من غير رابح أو خاسر، إنما إلى هيكلة لتفكيرنا الجماعي من أجل توفير أسباب التقدم لبلادنا، خاصة ونحن على أبواب رسم مخطط سياسي للعشر سنوات القادمة.

لماذا يتم تحويل مجرى النقاش إلى المسائل الفرعية بدل الأساسية؟ لماذا يُهيمن الجزء على الكل؟ أين هو التفكير في آلام الناس وأحزانهم ممن لا يجدوا فرصة عمل أو مأوى يلجأون إليه، أو ممن يعانون كل يوم من صعوبات التنقل والعلاج والتعليم… الخ،  هل يُعقل أن يصبح ترشح رئيس الجمهورية من عدمه هو الغاية من النقاش السياسي، وهو كل المستقبل الذي ينتظرنا؟ هل من المعقول أن يُختزل مستقبل كل الجزائريين وطموحاتهم في تحقيق غاية واحدة هي إعادة ترشيح رئيس الجمهورية من غير أي اكتراث للمطالب الضاغطة على كل مواطن في كل يوم، بل وفي كل دقيقة، أم أن نشوة الفساد لعبت بعقول البعض وأصبحت تمنعهم من التفكير إلا في أنفسهم؟

إن مثل هذا التوجه بالسياسة يُعد من قبيل الترف الفكري لأُناس مفصولين عن المجتمع، لا أظن بأنهم يعرفون معنى مشكلة البطالة أو السكن أو الصحة أو العدالة أو التعليم أو الصناعة أو الفلاحة أو غيرها…

إنهم يفترضون أن كل هذه المسائل بلا معنى، بل حتى مرض الرئيس لا يعتبرونه ذا معنى، لا تهمهم صحة الرئيس بقدر ما يهمهم الحكم باسمه، وليبقى مريضا إلى يوم الدين… ولا يهمهم مشروع الرئيس ولا أفكاره بقدر ما يهمهم وجوده وإمضاءه… فكيف سيفكر هؤلاء في مرض مواطن أو شعب بأكمله؟ كيف سيفكرون في مستقبله الاقتصادي واستقراره الاجتماعي وأمنه وسيادته!؟ أما التفكير في صياغة رؤية مستقبلية له فذلك ما سيكون مدعاة للضحك أو حتى إلى الجنون.

 

هل نحن الذين نعيش على الهامش أم هم؟ هل نحن الصواب أم هم؟

أسئلة جوهرية مافتئت تهزني وتهز كل مواطن، كلما اقترب موعد كهذا: الرئاسيات؟ هل يوجد بالفعل أُناس مستعدون لتحطيم البلاد على رؤوسنا إذا ما تم تهديد مصالحهم؟ هل يوجد من بين أبناء جلدتنا ممن هم مستعدون لإضعاف البلد من أجل تقوية أنفسهم، ومن هم  مستعدون لكشف عورات البلد من أجل ستر عوراتهم المكشوفة أصلا، ومن هم قادرون على منعنا من التفكير حتى تسود بَلادَتهم. وبيعنا من أجل شراء عفة مزيفة لهم…؟

لقد كشف اقتراب موعد الرئاسيات تزايد هذه النوعية من الناس، وأضعف حُلمنا في أن تكون الفئة الأخرى الأكثر نزاهة وحبا لبلدها هي السائدة، وكاد يشككنا في المستقبل، لولا إيماننا الجازم بأن الأغلبية الصامتة هي على حق ومازال بإمكانها أن تقول كلمتها في المستقبل إذا ما كانت قد مُنعت من قولها في الماضي وعن الماضي.

لقد وصلتُ إلى قناعة أن صياغة منظور ورؤية مستقبلية للجزائر أصبح مسألة ملحة وحيوية إذا ما أردنا لبلادنا أن تستمر في الوجود وأن تتقدم من غير هؤلاء. لم نعد في حاجة إلى حل مشكلات الحاضر فحسب، بل نحن في حاجة اليوم إلى القيام بعملية استباقية لحل مشكلات المستقبل، سواء تعلقت بالمواطن في حياته اليومية أو تعلقت بعلاقة مؤسسات الدولة فيما بينها، أو بعلاقة الجزائر الخارجية بغيرها من البلدان. انتهى عهد السير بعيون مغمضة ومن غير معرفة مسار بقية الطريق.

إن هذه هي أولوية الأولويات بالنسبة لنا ولرئيسنا المقبل: إما أن يأخذ بها، أو ينتظر فوضى عارمة لا يمكن التحكم فيها، تؤدي إلى ما لا يحمد عقباه.

إن غياب رؤية مستقبلية لبلادنا مُصاغة بكيفية مـتأنية ومن غير تسرع هو الذي أوقعنا في الاضطراب الذي نعرفه اليوم، وشتت الاتجاهات السياسية في بلادنا وفرض الغموض المريب على الواقع الذي نعيش، وسمح لكل يغني ليلاه، ويحلم بأن يكون رئيسا يفعل ما يريد.

إن الرؤية وحدها، النابعة من العمق الشعبي هي التي بإمكانها أن تحدد دور المؤسسات والأفراد والحقوق والواجبات وكيفية تجسيد تطلعات الناس في كافة القطاعات، وأن تكون بمثابة الأرضية التي يقوم عليها الدستور، وتنبع منها القوانين، والمرجع الذي يعود إليه كل من أراد أن يقدم تصورا لتطوير قطاع أو تغيير مسار سياسة. ومن دون هذه الرؤية سنبقى نسير على غير هدي لا نعرف إلى أين نحن سائرون، ونحن على مقربة من منعرج خطير قد يودي بحياتنا، إذا لم نعرف اجتيازه بسلام… بدون هذه الرؤية سيقودنا العَمى.. وعلينا أن نختار بينها وبينه: إما الرؤية بكل ما تحمل من آفاق وقدرة على النظر وحلٍ للمشكلات، أو العَمى الذي قد يدفعنا إلى الاصطدام والسقوط مع أول منعرج خطير قادم لا قدر الله…      

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
3
  • مصطفى بوحاجب

    بسم الله الرحمان الرحيم،
    طالما الشعب الجزائري محكوم من طغمة فاسدة تكن له أشد الكره و الاحتقار فليس ثمة سبيل للتطور و الازدهار، على الشعب أن يعلم أن السبيل الوحيد لاستعادة وطنه و كرامته هو السعي الحثيث بكل الوسائل السلمية المشروعة لتمكين رجال نزهاء و أكفاء من السلطة، رجال متشبعون بقيم الأمة يحبون الشعب و يحترمونه، هؤلاء وحدهم بتوفيق من الله يستطيعون إخراج البلاد من أزمتها و وضعها على الطريق الصحيح.

  • ghanou19

    كما توقعت و الحمد لله على كل حال....مساحة الامل بدات تتقلص بل ان عمقها لا يعدو ان يكون بساطا اخضرا مصفرا اواخر الربيع في تلال جافة على حدود الصحراء ذلك ان الجزائر صحراء ياس كبيرة يا سيدي... لو ان لك نظرة للنظام من الداخل لما تجرات حتى على تسميتها بمساحة امل...لا اجد ما اقول سوى الحمد لله على نعمة الموت

  • الجزائرية

    مهما كان المشهد الحالي يوحي بالفوضى و تداخل المتناقضات فشخصيا أتفاءل بأن هناك حراك يفضي إلى نقاش بل إلى صدمة و الصدمة عادة ما تفقد التوازن لكنها لا تلبث أن تعيده قويا و مستقيما فلا تحزن يا أستاذ مادام أمثالك من الخيرين يبحثون عن مساحات للأمل ،فالأمل موجود ،ولنتكلم ولنطرح أفكارنا و الأكثر أن نستمع للآخرين فحوار الطرشان يؤدي إل الطريق المسدودو يقول المثل الفرنسي المحاور الجيد هو من يسمع لغيره.و أتعجب من "سياسيّين"يتحوران و يتكلمان في نفس الوقت بالصوت العالي !!هل هؤلاء ممن نعول عليهم؟؟الحكم للآخرين