-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الرقية الشرعية.. بين الإفراط والتّفريط

سلطان بركاني
  • 2896
  • 3
الرقية الشرعية.. بين الإفراط والتّفريط

موضوع الرّقية الشّرعية من المواضيع التي جنح فيها كثير من المسلمين -اعتقادا وقولا وممارسة- إلى أحد طرفين، إمّا إلى الإفراط أو إلى التّفريط؛ أهل الإفراط تمادوا في مسايرة واقع المجتمعات المسلمة، وسعى بعضهم في استغلال الإقبال المتزايد على الرّقية والرّقاة والأحلام ومفسّريها، لتحقيق مكاسب مادية أو معنوية، بحجّة أنّ الرقية بديل للشّعوذة، ووسيلة من وسائل الدّعوة إلى الله، وأهل التّفريط تمادوا من جهتهم في مسايرة العلمانيين واللادينيين، الذين يرون في الرّقية- بمختلف أنواعها- مظهرا من مظاهر الخرافة التي لا يقبلها علم ولا عقل، وبين هؤلاء وأولئك لزم قلّة من النّاس التوسّط في هذا الباب، من دون إفراط أو تفريط.

الغلوّ في الرّقية وكيف فتن النّاس في دينهم ودنياهم

مال إلى الإفراط والغلوّ في موضوع الرّقية عامّة النّاس وكثير من طلبة العلم والدّعاة، وتوسّعوا في هذا الباب توسّعا لم تعرفه الأمّة في سابق عهدها، حتّى صارت الرّقية مهنة تدرّ على أصحابها مكاسب مادية كبيرة، وشهرة تجاوزت شهرة العلماء والأطبّاء، ما جعل كثيرا من ممتهنيها يفتحون عيادات خاصّة، ويتعاملون مع زبائنهم بالمواعيد التي تحجز مسبقا بمدّة تصل إلى أسابيع وشهور، بل إنّ بعضهم صارت لهم شهرة عابرة للبلدان والقارّات، تشدّ إليهم الرّحال، وتتسابق قنوات الرقية وتفسير الأحلام على استضافتهم، ليحدّثوا النّاس عن مغامراتهم في عالم الرقية وعن قصصهم في دعوة الجنّ وبطولاتهم في دحر مردتهم!

وهؤلاء مع بعد كثير منهم عن القرآن والعلم وعن فهم طبائع النّفس البشرية، فتنوا النّاس في دينهم ودنياهم؛ ففتحوا عليهم باب الغلوّ في الرّقاة واعتقادِ أنّهم وسطاء إلى الله، ينزل النّفع والشّفاء على أيديهم، وبثّوا الفتنة بين الأسر، والقطيعة بين الأفراد، وفتحوا على النّاس أبواب الشّكوك والهواجس والوساوس على مصاريعها، بكثرة حديثهم عن غرائب قصص المسّ والسّحر والعين، وتوسّعهم في أعراضها، حتى صار كلّ من ألمّ به عارض من مرض أو قلق أو تغيّر مزاج، يشكّ أنّه مسحور أو مصاب بعين أو مسّ، وأصبح من يخفق في عمله أو تجارته أو دراسته أو في حياته الزّوجيّة، يعلّق فشله على إصابته بعين أو مسّ أو سحر.

 

الجفاء في أمر الرقية ومصادرة النّصوص الشّرعية

وفي مقابل هذا الغلوّ والإفراط، مال إلى الجفاء والتّفريط بعض الكتاب والنّفسانيين والدّعاة، فأنكروا الرّقية الشّرعية جملة وتفصيلا، بناءً على إنكارهم السّحر والمسّ والعين، وقابلوا الغلوّ الذي وقع فيه أكثر الرّقاة، بمجازفات جعلتهم يردّون أو يؤوّلون نصوصا شرعية ثابتة في القرآن والسنّة، مثل قوله تعالى: ((وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوت)) (البقرة/ 102)، وقوله جلّ وعلا: ((الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ))، وقوله عليه الصّلاة والسّلام: “العين حقّ” (متّفق عليه)، وقوله صلوات ربّي وسلامه عليه: “اعرِضوا عليَّ رُقاكم، لا بأسَ بالرُّقى ما لم يكن فيها شِركٌ” (رواه مسلم)، وهؤلاء اضطرّوا أنفسهم إلى هذه المجازفات ظنّا منهم أنّ إثبات المسّ والسّحر والعين ومداواتها بالرقية الشّرعية، يجعل الإسلام في حرج أمام العقل والعلم الحديث، لكنّهم لو تريّثوا قليلا لأدركوا أنّ هذا التّعارض لا حقيقة له، لأنّ العلم الحديث وإن كان لا يثبت وجود الجنّ ووجود حقيقةٍ للسّحر والمسّ والعين، فإنّه لا يستطيع إنكار شيء من هذا، بل إنّ هناك حقائقَ علمية كثيرة، تجعل القول بوجود الجنّ، ووجود حقيقة للمسّ والسّحر والعين أمرا مقبولا من الناحية العلمية والعقلية.

 

العلم الحديث لا ينفي وجود الجنّ ولا ينفي تأثير العين والسّحر

العلماء ومنذ آنشتاين يتحدّثون عن عالمين متداخلين في هذا الوجود، عالم المادّة وعالم الطّاقة، والتّسليم بهذه الحقيقة يجعل الإيمان بوجود الجنّ المخلوق من مارج من نار، أي من طاقة عالية، أمرا مقبولا من الناحية العلمية، خاصّة إذا ربطنا بين النّصوص الشّرعية التي تتحدّث عن الطبيعة الاهتزازية للجنّ ((فَلَمَّا رَآهَا تَهْتزُّ كَأَنَّهَا جَانّ ولَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ)) والحقيقة العلمية التي تؤكّد أنّه كلّما ازداد اهتزاز المادّة ازدادت طاقتها وازدادت إمكانية خروجها عن مجال الرّؤية، وإذا أضفنا إليها الحقيقة التي تنصّ على أنّ الاستقرار يعني وجود الطّاقة في أقلّ مستوياتها، والاضطراب يعني وجودها في أعلى مستوياتها، أمكننا أن نفسّر ما يعتري كثيرا ممّن يعانون أمراضا نفسية من اضطراب وعدم استقرار، يظهر في بعض الأحيان على شكل حركات اضطراب لبعض أعضائهم؛ فهذه الأعراض في غالب الأحيان تكون بسبب أزمات وأمراض نفسية، وتكون في أحيان قليلة بسبب طاقة اهتزازية عارضة، تظهر وتختفي وتضعف وتقوى، لا يستطيع علماء النّفس علاجها، وتعالج بالرّقية الشرعية، وعلماء الطّبيعة لا ينكرون تأثير الأصوات الحسنة ليس في النّفس وفي عالم الطّاقة فحسب، وإنّما أيضا في عالم المادّة، وقد أجريت تجارب كثيرة على الماء وعلى النّبات أثبتت هذه الحقيقة، كما أثبتت تجارب أخرى إمكانية علاج كثير من الاضطرابات النفسية بسماع الأصوات الحسنة، التي تؤدّي إلى تخفيف الاهتزازات العارضة شيئا فشيئا حتى تصل إلى السّكون، وهو ما يفسّر تأثير الرّقية الشّرعية في زوال العوارض التي تصيب الإنسان.

أمّا فيما يتعلّق بالعين، فإنّ ما وصل إليه العلم الحديث يؤكّد أنّ حصولها أمر ممكن، بعدما اكتشف فريق من الباحثين الأمريكيين أنّه بالإمكان استخدام الإشارات الكهرومغناطيسية التي يرسلها الدّماغ- والتي أصبح بالإمكان اكتشافها وقياسها بأجهزة خاصّة- لتحريك مؤشّر فأرة الحاسوب في اتجاهين بشكل سريع ودقيق، وقالوا إنّه يمكن الوصول إلى التحكّم في جهاز الكمبيوتر من دون لمسه، وهذا الاكتشاف العلميّ يصلح ليكون تفسيرا للإصابة بالعين، فالحاسد الذي يركّز عينه على شخص ما، يمكن أن يؤثّر في نفسه- بإذن الله- عن طريق الموجات الكهرومغناطيسية القوية التي يرسلها دماغه إلى جسد المحسود، والتي يستجيب لها دماغه ويتفاعل معها ويتأثر بها.

ولا شكّ أنّ قراءة القرآن وبخاصّة إذا كانت بصوت حسن، تؤثّر في إبطال عمل تلك الإشارات التي أثّرت سلبا في عمل دماغ الضحية.

 

التوسّط في أمر الرّقية

الرقية الشّرعية طاعة ودعاء، وإنابة ورجاء، وهي علاقة بين العبد وربّه، لا تحتاج إلى من يمتهنها ويحترفها، فالأصل أن يرقي المبتلى نفسه بالتّوبة إلى الله والاستقامة على طاعته، وقراءة القرآن الكريم، والمحافظة على الأذكار الشّرعية، والإلحاح في الدّعاء، ولا بأس أن يستعين من لا يحسن القراءة بمن يقرأ عليه من دون اشتراط أن يكون راقيا أو إماما أو عالما أو داعية، المهمّ أن يكون مسلما محافظا على فرائض دينه مجتنبا كبائر الذّنوب، مع اعتقاد أنّ الشّافي هو الله وحده، يكتب الشّفاء في الوقت الذي يريد وعلى الوجه الذي يريد، ومع الأخذ بعين الاعتبار أنّ اللّجوء إلى الله والتذلّل بين يديه، والإلحاح عليه في الدّعاء، أفضل من الاستعانة بالغير في هذا الباب، لقول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: “يدخل من أمّتي الجنّة سبعون ألفاً بغير حساب”، قيل: يا رسول الله، من هم؟ قال: “الذين لا يرقون، ولا يسترقون، ولا يتطيّرون وعلى ربهم يتوكلون” (رواه البخاري ومسلم).

كما أنّ الأصل في القرآن الكريم أنّه كتاب هداية، وهذه هي الغاية التي لأجلها أنزل، ومن رحمة الله أنّه جعل فيه شفاءً لعباده المؤمنين، لأمراض الأرواح والأنفس والأبدان، لا يستغني من يستشفي به عن الأدوية الطّبيعية والنّفسية، لذلك قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم: “عليكم بالشّفاءين، العسل والقرآن”، فدلّ على الشّفاء الرّوحيّ والشّفاء الماديّ، وجمع بينهما، ليعلّم أمّته أنّ الشّفاء الكامل من كلّ الأمراض، إنّما يتحقّق بعلاج الجوهر وعلاج العرض، لأنّ لكلّ منهما تأثيرا في الآخر. 

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
3
  • رانية

    هذا هو القول السليم جزاك الله كل خير

  • بدون اسم

    آي وه هذه المواضيع تخرج عليك

    وماذا بيك يا أستاذ ما تخرجش منها

    هنا تفيد وتستفيد

  • بدون اسم

    بارك الله فيك على الإفادة .