-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الرّاحة لا تُنال بالرّاحة

سلطان بركاني
  • 984
  • 0
الرّاحة لا تُنال بالرّاحة

يروي عالم اللغة عبد الملك بن قريب البصريّ الشهير بالأصمعي، موقفا حصل معه وهو مجاور بمكّة المكرّمة، فيقول: “هجم عليَّ شهر رمضان وأنا بمكَّة، فخرجتُ إلى الطائف لأصوم بها هربًا من حرِّ مكَّة، فلقيَني أعرابيٌّ فقلت له: أين تريد؟ قال: أريد هذا البلدَ المبارك لأصوم هذا الشهر المبارك فيه، فقلت: أما تخاف الحرَّ؟ فقال: مِنَ الحَرِّ أفرُّ”.

هذا الموقف الذي حكاه الأصمعيّ وكان درسا مهما استفاده في حياته، يحكي واقعا يعيشه كثير من المسلمين في رمضان وفي غير رمضان، حين يؤْثر الواحد منهم راحة موهومة على راحة باقية، ويتّبع هوى نفسه في طلب الرّاحة بعد الرّاحة، ويغفل عن الرّاحة الحقيقية التي ينالها من نصب بدنه في طاعة الله.

تجد الرّجل يتخطّى المسجد القريب منه إلى مسجد آخر بعيد عنه، لا لشيء إلا لأنّ مدّة التراويح في المسجد القريب تزيد 10 دقائق على الصّلاة في المسجد البعيد، على الرغم من أنّه يقضي في الطّريق مدّة تزيد على عشر دقائق! يبحث عن الإمام الأسرع قراءة ليصلّي التراويح، وهو الصحيح المعافى، ويفوّت على نفسه أجر إطالة القيام.. وما يقال عن صلاة التراويح يقال كذلك عن صلاة الجمعة، حيث تجد كثيرا من المصلين يتركون مساجد أئمّتها يقدّمون دروسا وخطبا نافعة، ويؤمّون مساجد أئمّتها يقدّمون خطابا لا يحيي ميتا ولا يحرّك ساكنا، لا لشيء إلا لأنّ هؤلاء الأئمة ينصرفون من الصلاة قبل الأئمة الآخرين!

رمضان يأتي كلّ عام ليصحّح هذا الخلل في حياتنا وفي التعامل مع عباداتنا؛ فالصّائم يجد في ساعة الإفطار انشراحا في صدره وسعادة غامرة في قلبه، بعد ما كابد من جوع وعطش في نهار رمضان، ويجد بعد السلام من آخر ركعة في التراويح سعادة وأنسا في روحه تنسيه المشقّة التي وجدها في طول القيام.. هذا الشّعور المجرّب يفترض أن يقرع القلوب بأنّ الراحة الحقيقية لا تتحقّق إلا مع شيء من التعب والمشقّة، وهي الحقيقة التي فهمها سلف الأمّة الصّالحون من سيرة إمام المرسلين ومن قول ربّ العالمين لخاتم أنبيائه: ((فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ)) (الشّرح: 7)، أي: “إذا فرغت من مشاغل الدّنيا وقطعت علائقها فانصب في العبادة وقم نشيطا فارغ البال”. يُروى أنّ التابعيّ الزاهد الربيع بن خثيم -رحمه الله- صلّى ليلة حتى أصبح، فقيل له: أتعبت نفسك! فقال: “راحتها أريد”، ويُروى مثله عن الإمام الحسن البصريّ أنّه قيل له: أتعبت نفسك؟! فقال: “بل راحتَها أريد”.

طلبُ الرّاحة الحقيقية بإتعاب الأجساد -تعبا غير ضارّ- في طاعة الله، لم يعد مطلبا يرنو إليه كثير من المسلمين في زماننا هذا، حيث أصبح أكثرهم يطلبون الرّاحة بالتخفّف من العبادات وينظرون إليها -بواقع الحال- كما لو كانت تكاليف مرهقة يسارعون إلى أدائها تخلصا منها لا رغبة فيها وأنسا بها.. لذلك تجد من الصّائمين من يلوذ بالنّوم في نهار رمضان ليخفّف عن نفسه مشقّة الصيام، وينسى أنّه يفوّت عن نفسه أجورا عظيمة بنومه في ساعات يفترض أن تعمر بالطّاعات، وتجد من يتسلل من صلاة التراويح بعد ركعتين أو أربع ملتمسا لنفسه من الأعذار أوهاها، ليتفرّغ لجلسة يظنّها تريح جسده وتسعد قلبه، وهي لا تزيد على أن تضيّع عنه أجورا عظيمة هو في أمسّ الحاجة إليها ليعتق رقبته من النّار.

تجد المسلمة ما أن يحلّ موسم الدّفء في الربيع والصّيف حتّى تبدأ في التخفّف من اللّباس ظنّا منها أنّها تريح بدنها من أثقال الثياب؛ تظنّ راحة بدنها في لبس الضيّق والخفيف من الثياب، وتنسى أنّ الراحة الحقيقية في التعفّف ولزوم أمر الله بالسّتر والاحتشام، ورحم الله زمانا كان يقال فيه للمرأة العجوز: ألا تضعين عنك الرّداء وقد أذن الله للقواعد من النّساء بذلك فقال: ((وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ))؟ فتردّ قائلة: وتتمّة الآية: ((وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)).

تجد المسلم يطلب راحة أبنائه بإطلاق يده في كلّ ما تقع عليه من دون تمييز بين حرام وحلال، ويقول بملء فيه: “لقد تعبت في حياتي، ولا أريد لأبنائي أن يتعبوا كما تعبت”! وينسى أنّ الحرام شقاء وضنك في الدّنيا وعذاب ونكال في الآخرة، لذلك كانت نساء السلف توصي إحداهنّ زوجها إذا خرج لطلب الرزق: “اتّق الله فينا، ولا تطعمنا إلا حلالا، فإنّا نصبر على الجوع ولا نصبر على النّار”.

إنّ العبد لو وزن الأمور بميزان الشرع والعقل، لأدرك أنّ راحة النّفس الحقيقية هي في تعب البدن في طاعة الله، وإذا كانت راحة الدّنيا الفانية لا تنال براحة الأبدان، والقعود لا يوصل إلى المجد؛ فكيف بالآخرة الباقية! ومن طلب راحة بدنه في هذه الدّنيا، ربّما أورده المتاعب في الآخرة، لذلك قيل: “من طلب الرّاحة ترك الرّاحة”، وقال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: “المكارم منوطة بالمكاره، والسعادة لا يُعبر إليها إلاَّ على جسر المشقّة، فلا تُقطع مسافتها إلاَّ في سفينة الجد والاجتهاد”، وقال -رحمه الله-: “المصالح والخيرات واللذات والكمالات كُلّها لا تُنال إلاَّ بحظّ من المشقَّة، ولا يُعبر إليها إلاَّ على جسر مِن التعب. وقد أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يُدْرك بالنعيم، وأنّ مَن آثر الراحة فاتته الراحة، وأنّ بِحسب رُكوب الأهوال واحتمال المشاقّ تكون الفرحة واللذة؛ فلا فرحة لمن لا همّ له، ولا لذَّة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له! ولا راحة لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبد قليلا استراح طويلا، وإذا تحمّل مشقّة الصبر ساعة قاده لحياة الأبد، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة”.

هذه الدّنيا قضى الله أن تكون دار امتحان وتعب، والعبد إمّا أن يريح بدنه عمّا ينفعه في الدّنيا والآخرة، فتتعب نفسه بالهموم والغموم، أو يتعب بدنه في ما ينفعه في الدّنيا والآخرة، فيجد للرّاحة لذّة بعد المشقّة، وينال الرّاحة الكبرى عند القدوم على الله يوم القيامة. سئل الإمام أحمد بن حنبل- رحمه الله-: متى الراحة يا إمام؟ أجاب قائلا: “عند أول قدم تضعها في الجنة”.

ليس المقصود بإتعاب الأبدان التنطّع والتعسير أو تقصّد المشاقّ، إنّما المقصود مخالفة هوى النّفس في طلب الرّاحة في مواطن وأوقات الجدّ والعمل والركون إلى الدّعة في مواسم الطّاعات والقربات، والنّفس تعشق الرّاحة بعد الرّاحة، وتحبّ القعود في وقت النّشاط وفي كلّ وقت، والعبد اللّبيب الفطن، يعرف متى يريح نفسه، ومتى يأخذها بالجدّ ويلزمها العمل.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!