-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الشغف… والاستئناف الحضاري

أحمد بن يغزر
  • 490
  • 0
الشغف… والاستئناف الحضاري

ما من إنجاز لافت كُتب له النجاح كبيرا أو صغيرا إلا وكانت وراءه إرادة قوية، وفي قلب هذه الإرادة حماس وشغف، طبعا قد لا يكون ذلك عاملا وحيدا أو كافيا، لكن كل العوامل الأخرى تفقد فعاليتها من دونه، هذا ما تُخبرنا به أحداث التاريخ وتحولاته.
بغياب “الشغف” تذبل الطموحات الفردية، وتتوقف المجتمعات والأمم عن الحلم وعن الرغبة القوية في الإنجاز، وعندما يحدث ذلك تغرق الأمم من خلال أفرادها ومجموعاتها في “الاهتمامات الخاطئة” وتتقوقع في دوائر “الوهم”. والأسوأ، أنها تستسلم ليأسها، وتجثو أمام عجزها.
ولتوضيح الأمر، لنُعرف “الشغف” ونقتبس هذا التعريف: “شعور قوي للغاية بالكاد تستطيع السيطرة عليه”، وتعريف آخر: “الشغف هو طاقة، وشعور بالقوة نابع من التركيز على ما يُثير حماسك”. وبمثل ما هناك (ما) و(من) يُثير وينفخ في “جمرة الشغف”، هناك (ما) و(من) يعمل بحرص على أن تبقى هذه “الجمرة” سوداء باردة لا حُمرة ولا حرارة فيها، وتلك من العوائق– وقد تكون العائق الأول- في مسيرة الاستئناف الحضاري.
الاستئناف الحضاري ليس قرارا يُتخذ، ولا مصادفة مفاجئة تُجسد أمنيات تختلج في النفوس، ولا اندفاعة غير مدروسة تقودها العواطف والرغبات، الاستئناف صيرورة تتغذى من روافد متنوعة، وقد تبدو بعض هذه الروافد غير ذات بال ولا قيمة، لكنها عندما تتجمع تُشكل تيارا دافقا يدفع حركة الاستئناف بخطوات هي بمقياس الزمن المُعتاد قصيرة، وبمعيار العين الراصدة دون أثر، لكنها بميزان سير الحضارة مؤثرة.
لقد بدأت المسيرة الحضارية للأمة الإسلامية بمجموعة قليلة ومُستضعفة من الناس، لكن قائد هذه المسيرة النبي محمد- صلى الله عليه وسلم- نفخ روحا جديدة في نفوس أفراد هذه المجموعة المُستضعفة، فإذا بهم يتحولون إلى أفراد “أمة” في حركتهم وفعاليتهم.
وكانت البداية بالشغف، شغف الانقلاب على واقع غير سوي، شغف صناعة مشهد جديد، شغف تغيير النظرة للحياة، شغف المسك بزمام المبادرة، شغف الإدراك الواضح للدور المطلوب، والمهمة المنتظرة، وتلك هي الطاقة الهائلة التي أحدثت كل ذلك التحول في نفوس النواة البشرية الأولى التي احتضنت وحملت الرسالة في لحظة انطلاقها.
نحن هنا نتحدث عن الاستئناف الحضاري، وهو ما يعني أن المقصود ليس التأسيس لـ”حضارة جديدة”، لكن هو استئناف لمسار له حضور عميق في التاريخ، وامتداد واسع في الجغرافيا، ومساهمة مُقدرة في التراث الإنساني، ولفترة من الزمن ليست قصيرة امتدت لقرون، ثم توارت وتراجعت كأنها ما كانت ولا سادت.
وليس المقصود بالاستئناف– كما قد يعتقد البعض- أيضا إعادة استنساخ هذه التجربة التاريخية في أشكالها وتمثلاتها وصُورها التي تختزنها الذاكرة الجماعية للأمة، وتحويها كتب التاريخ وسجلات السير، إنما المقصود هو استئناف حيوية (الفكرة) التي انطلق على هديها هذا المسار الحضاري، وإعادة تفعيل القيم التأسيسية الأولى التي صاغت الشخصية الإنسانية التي صنعت هذا المسار، لم تغب هذه (الفكرة) ولا انمحت هذه (القيم)، لكن حضورها الواقعي والفعلي باهت، شكلي، وغير مؤثر بالقدر الكافي.
إن المسلم المُعاصر لا يعوزه (الإيمان بالفكرة) ولا (الاعتزاز بالقيم التأسيسية) لكنه إيمان ساكن يفتقر إلى (المنطق العملي)، واعتزاز وافر لكنه غير مُعزز بالالتزام الفعلي والمستدام، كما أن المنظومات السياسية القائمة اليوم على امتداد العالم الإسلامي في أغلبها لا تبذل من الجُهد ولا تضع من الاستراتيجيات الدائمة والذكية التي تُتيح لهذه (الفكرة) ولا لهذه (القيم) التواجد الفعال والمؤثر، بل إن بعض هذه المنظومات ترى فيها تهديدا وعائقا.
إن الشغف المقصود هنا هو الشغف بالفكرة في نسختها الأصيلة، والقيم التأسيسية التي قامت عليها في زمنها الأول، شغف بالإمكانية والقدرة، شغف بالمساهمة الواعية في الإنجاز، فإن لم يكن لا هذا ولا ذاك، فعلى الأقل شغفُ “الحلم”، وليس هناك ما هو أقل من ذلك.
يدفع الشغف بمن يتلبسه عادة في لحظة ميلاده إلى بذل أقصى حدود الوُسع، وقد يُنجز البعض جراء ذلك ما لا يتوقعون وأعظم مما يأملون، ويتوقف الأمر على قوة الاندفاعة الأولى، لكن قد يتسلل إلى النفوس في أثناء الطريق شعور بالضعف، أو بعدم الجدوى، أو بطول الأمد…
ونتيجة لذلك وفي لحظة تاريخية ما تبدأ جذوة الشغف بالذبول، وحرارته بالتدرج في النزول، ويصير الحماس للإنجاز أقل، بل قد يكثر الالتفات، الالتفات لمغنم عاجل، أو لشهوة زائلة، أو لطموح مخبوء، أو لرغبة كامنة “أخفاها يعقوب طويلا” لحاجة في نفسه.
وعندما نتأمل في سير حركة التاريخ، ونتوقف عند محطاته الفارقة، نجد أن “الشغف” لا يكون في حضوره بنفس القوة والألق دوما، لكنه يكون أقوى ما يكون في بداية التحولات الكبرى، وواضعو لبنات هذه التحولات هم عادة طبقة استثنائية من الناس بما يملكونه من طاقة وشغف، والأهم من ذلك قوة ما يميزهم من قدرة على نقل هذه الطاقة وهذا الشغف لغيرهم.
إن ذلك طبيعي ولا ينبغي أن يُستغرب، وقد ورد في الحديث الشريف عن الرسول الكريم- عليه الصلاة والسلام- قوله: “خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم” والخيرية المتدرجة الموصوفة في هذا الحديث هي في أصالة الانتماء وقوة التمثل، لكن قبل ذلك في الإيمان والشغف، وهو الواضح في مسار كل بناء حضاري، أو إنجاز تاريخي.
فالجيل الأول يكون في الغالب أقوى إيمانا وأصلب عزيمة، ثم يبدأ خط السير في الانحناء كأنما هي سنة أو قانون، وقد وقف عند هذه الخصيصة فقيه العمران عبد الرحمان بن خلدون وهو يتأمل في خط قيام وسير وزوال الدول، يحتاج السائرون في طريق الاستئناف والحاملون لهمه أن يستوعبوا هذا المعنى.
في كل التجارب التاريخية يُلاحظ أن خط الانطلاق في مسار الإنشاء أو الاستئناف الحضاري يبدأ من نقطتين:
أولاهما “فكرة عظيمة” مُحفزة تُثير وتُوجه كل الطاقات وتدفعهم نحو هدف مُشترك، وقد تكون هذه الفكرة (صحيحة) وقد لا تكون، لكن ما يعطي للفكرة قوتها في التحفيز والجذب أن يحملها مخلصون لها قادرون على أن يكونوا نماذج عملية لها.
وثانيتهما (شغف) يتغلغل في نفوس جميع من يعنيهم الأمر، ويدفعهم للمساهمة في المُنجز كل على شاكلته، وبحسب موقعه، وبقدر استطاعته، ويبدو الجميع كما لو أنهم يتحركون في الواقع بشكل متناغم على لحن نشيد واحد، وفي ساحة الإنجاز تتكامل الإسهامات الفردية البسيطة مع الخطوات الجماعية الكبيرة، يشعر الجميع بمسؤوليتهم، ويُدرك الكل أدوارهم.
في أحاديث كثيرة، وردت عن النبي الكريم محمد- عليه الصلاة والسلام- تبشير بأجور وحسنات كبيرة عن أعمال تبدو صغيرة، ومن ذلك:
“اتقو الله ولو بشق تمرة” و”من درجات الإيمان إماطة الأذى عن الطريق” وعن “المرأة (البغي) التي غفر الله لها ذنوبها لأنها سقت كلبا يكاد الظمأ يقتله” و”من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه” وعن “الفسيلة (الشُجيرة الصغيرة) تغرسها حتى في وقت قيام الساعة” وعن” حق الطريق”… ومثل ذلك كثير، وكأن في هذه النصوص وفي ما يُشبهها غرسا لشغف المساهمة في الإنجاز بما هو متاح وممكن ولو كان رمزيا وقليلا.
إن الخطوات الفردية الصغيرة تصير خطوات عملاقة عندما تنتظم في نسق السير الجماعي للأمة وهي تلتمس طريق الاستئناف من جديد، تماما مثل فرقة من الجنود بعشرات أو بمئات من الأفراد تسير بانتظام مثير، وكل فرد في هذه الفرقة يُدرك أهمية خطوته في انتظام أو ارتباك سيرها الجماعي، وهو ما يُشعره بالمسؤولية ويُبصره بالدور.
قد لا يصنع الشغف أفكارا، وقد لا يُغير واقعا، لكن هو الشرط الأساسي الذي يُعطي للأفكار الروح التي تعيش وتتجذر بها، ويهبها القوة التي تتجاوز بها كل الإكراهات التي قد تواجهها، ويمنح لمن يحملها قدرة هائلة على الفعالية والإنجاز.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!