-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الشيلي: بلد النضال والعلم

الشيلي: بلد النضال والعلم

لا شك أن طلابنا يعتبرون الشيلي دولة تعيش في الظلمات كسائر بلدان العالم الثالث، بينما يفترض أن يكون اسم هذا البلد راسخا في أذهانهم كبلد عرف مرارة النضال وسبل الخروج من البؤس وانتهاج سبيل العلم… فكيف لا نتعرّف عليه اليوم للاقتداء بمسيرته ؟!

النضال السياسي ولاقتصادي

عندما كانت الجزائر تُلقّب بـ”كعبة الثوار” وتلجأ إليها كل الحركات التحررية في العالم الثالث، سيما من إفريقيا وأمريكا اللاتينية، كان قد أوى إليها ثوريون من الشيلي. ونتذكّر أن منهم من درّسنا عام 1970 في الجامعة المركزية. كان هذا الأستاذ هرما، خطه جميل والأشكال الهندسية التي يخطها بيده على السبورة كانت أجمل. وكان لا يتوانى في أن يوصينا، كما يوصي الجدّ أحفاده، بأن علينا الاجتهاد وألا نضيع وقتنا حتى داخل الحافلة التي تنقلنا من الجامعة إلى الحي الجامعي وأن نستغل ذلك الوقت في المذاكرة!

وعندما اعتلى الرئيس سلفادور ألندي (19081973) السلطة في الشيلي في نهاية عام 1970 جنّ جنون الولايات المتحدة لأنه كان أول اشتراكي في أمريكا اللاتينية تولى السلطة بصفة ديمقراطية. ولذلك قُضيَ على حُكمه يوم 13 سبتمبر 1973 قبل أن “تنتشر عدواه” في تلك القارة، وأُوتيَ بالجنرال أوغسطو بينوشي (19152006) الموالي لأمريكا. وقد عُرف بينوشي بقمعه الشديد خلال سنوات عديدة لأنصار ألندي الذي كان صديقا للجزائر. ودخلت الشيلي في مرحلة بؤس غادرها من جرائها الكثير من خيرة علماء البلاد.

ومن المعلوم أن في 11 جويلية 1973- أي قبل شهرين من القضاء على ألندي- وقع انقلاب تزعمه محمد داود خان في أفغانستان مُوالٍ للاتحاد السوفييتي. في ذلك الوقت كان رأي المخابرات الصينية أنه تم إبرام صفقة بين موسكو وواشنطن تقضي بأن تتخلى أمريكا عن أفغانستان للسوفييت مقابل تخلّى السوفييت عن الشيلي لأمريكا.

كان البعض يؤكد في عهد بينوشي، الذي دام 16 سنة، أن الشيلي ذهبت ريحها بعد سقوط الرئيس ألندي وأنها ستظل في مؤخرة العالم الثالث، وإذا بمعدل الفقر فيها ينزل من 50% عام 1987 (أواخر عهد بينوشي) إلى 18.8% عام 2003 (عهد ريكاردو لاغوس). وصارت الآن تمثل الدولة الأكثر تطورا في أمريكا اللاتينية! وفي عام 2010 أصبحت الدولة الأقل فسادا في جنوب أمريكا ولُقِّبت بـ”نمر أمريكا الجنوبية”، وهي تتمتع بحكم يتميّز بطابعه الديمقراطي الأكثر استقرارا سياسيا واقتصاديا في أمريكا اللاتينية… حتى اعتبر بعض المحللين أن الشيلي تعيش الآن “معجزة اقتصادية”!

لو سئل الجمهور الجزائري عن اسم الدولة غير العربية التي تأوي أكبر جالية فلسطينية في العالم لاهتدى القليل إلى الجواب الصحيح لأن هذه الدولة هي الشيلي! فعدد الفلسطينيين فيها يُقدر الآن بنحو نصف مليون نسمة، وهذا العدد لم تتجاوزه (ببضعة آلاف) سوى سوريا والأردن. ومن الجالية الفلسطينية في الشيلي من تولى مناصب سياسية سامية، مثل سيرجيو البيطار الذي تولى وزارة الصناعة المنجمية في عهد ألندي ووزارة التربية في مطلع هذا القرن. كما أن رئيس بلدية العاصمة خلال الفترة 20062012 كان من أصل فلسطيني. بل إن للفلسطينيين في الشيلي ناديا لكرة القدم منذ 1920 في العاصمة يحمل اسم “فلسطينو” (Palestino) سبق له الفوز بكأس الشيلي علما أن قميص الفريق يحمل الألوان الفلسطينية وخريطة فلسطين. ويُذكر أن هذا الفريق تسبب في جدل سياسي أثاره أنصار إسرائيل عندما مثّل الشيلي في مباريات دولية وهو بألوان فلسطينية! لا شك أن لجوء الفلسطينيين بهذه الكثافة إلى الشيلي راجع إلى الرصيد النضالي الذي يتمتع به البلد عبر تاريخه الطويل.

 

التقدم العلمي

ما كان للشيلي أن يحقق هذا التقدم السياسي والاقتصادي بدون تقدم علمي كبير لأنه لا يمكن لطائر أن يطير بجناح واحد. وما يثبت هذا التقدم العلمي أن البلد صار منذ مدة يستقطب الباحثين الأجانب. فعلى سبيل المثال، قبل أزيد من عشر سنوات التقينا أحد أساتذة الرياضيات الجزائريين كان سنوات في الجامعات الشيلية، والتقينا بآخر كان غادر جامعة تيزي وزو واستقر بجامعة فرنسية روى لنا منبهرا أنه استضيف في الشيلي آنذاك وأوضح في معرض حديثه أن المضيّف الشيلي يحدد للضيف مبلغا ماليا يسلم له نقدا ويكون هذا الأخير هو المسؤول عن صرفه خلال إقامته وتنقله كما يشاء ولا تتكفل الجامعة بغير ذلك.

 نذكّر هنا -لمن لا يعلم- أن طريقة استضافة الجامعة الجزائرية للأساتذة الأجانب طريقة بدائية لا تريح أحدا. فعندما توافق الجامعة عندنا على دعوة أستاذ ترسل له تذكرة طائرة قيمتها عند خطوطنا الجوية ضعف قيمتها الحقيقية بدعوى أن الضيف ينطلق من بلد أجنبي! وعند وصول الزائر يُنقل إلى فندق (أحيانا فاخر وأحيانا دون المستوى) ويتناول طعامه صحبة أستاذ مرافق (مما يضاعف تكلفة الأكل). وفي آخر الزيارة ينقل إلى المطار دون أن يُدفع له دينار واحد… فإن أراد مثلا تناول قهوة أو شراء أي شيء من السوق فذلك سيكون على حسابه الخاص. وفي الأخير تدفع الجامعة فواتير تكاليف الزيارة التي لا يمكن معرفة مجملها مسبقا خلافا لما يجري في الشيلي. قارن هنا الطريقة الجزائرية العرجاء والطريقة الشيلية المنهجية التي هي في الواقع معمول بها في معظم جامعات العالم.

دعنا نضرب مثالين يبينان التوجّه الصحيح للشيلي في المجال العلمي :

– المثال الأول: تعتبر صحراء أتكاما Atacama في الشيلي أفضل مكان في العالم تُنصب فيه المقاريب (التلسكوبات) العملاقة والمراصد الفلكية لأن هذه الصحراء تتميّز بخصوصيات فلكية لا توجد في غيرها، مثل شدة الجفاف وندرة الأمطار طول السنة، فالجو هناك صحو بشكل لا يضاهى. ولذا يجد الفلكيون العالميون ضالتهم في هذه الأرض. فصارت بالفعل وجهة الفلكيين والمكان الأنسب للباحثين في الفضاء عبر العالم. توجد في هذه الصحراء 7 مراصد ضخمة، كل منها متخصص في حقل من حقول الرصد الفلكي. وفي نهاية ماي الفارط دشنت رئيسة جمهورية الشيلي أكبر مقراب في العالم الهدف منه التقاط إشارات من كواكب تقع خارج منظومتنا الشمسية، سيدخل الخدمة عام 2024 وسيكلف مليار يورو.

– المثال الثاني: من بين الهيئات العلمية والأكاديمية العديدة التي أنشأتها السلطات الشيلية حديثا، نذكر مركز النمْذجة الرياضية الذي دُشن عام 2000؛ فهو مركز علمي رائد للبحث في الرياضيات وتطبيقاتها. وقد حددت الهيئة المجالات الاستراتيجية لأبحاثها المتمثلة في : التعدين؛ الرياضيات البيولوجية والصحية؛ تدريس الرياضيات؛ إدارة الموارد، البيانات والحوسبة عالية الأداء. واللافت أن لهذا المركز لجنة علمية دولية تتكون من 8 شخصيات من كبار علماء العالم إضافة إلى لجنة قومية.

وقد ساهم المركز منذ نشأته في حل مسائل طرحت في مجالات اختصاصه في الشيلي. كما يعتبر مكانا رائدا للبحث والتدريب المتقدم في الرياضيات التطبيقية ومرجعا للدراسات الجامعية وللدكتوراه ولما بعد الدكتوراه في الرياضيات التطبيقية والصناعية. وهكذا أصبح المركز معترفا به دوليا كمنصة للنمْذجة الصناعية الرياضية والابتكار. والجدير بالملاحظة أن المركز أسهم في تنامي الوعي الاجتماعي بدور الرياضيات في المجتمعات المعاصرة والتطور التكنولوجي.

مقارنة محزنة: هل من اللزوم أن نذكّر بأن مركزا من هذا القبيل ما فتئ جامعيونا في الداخل والخارج ينادون به منذ عام 2000 ولم ير النور لحد الساعة !!

تثبت الشيلي التي استطاعت استقطاب علمائها -بعد أن رحلوا عنها خلال السنوات العجاف- أن الجزائر بإمكانياتها الحالية وبفضل مواردها البشرية في الداخل والخارج قادرة -كما فعلت الشيلي- على النهوض نهضة علمية حقيقية لو تتوفر الإرادة السياسية وتصدق النيات وتخلص الأعمال. فهل لدينا إرادة سياسية، أولا؟ وأخيرا، هل لدينا ساسة يؤمنون بشيء يسمى “التقدم العلمي” ويعملون على تحقيقه؟ المؤلم أن لا برهان لنا على ذلك!!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
5
  • فف

    الشيلي لا يحكمها عسكر كل همهم النهب والكونتونار تعهم

  • جمال المغسكري

    صدقت يا أستاذ لدي صديقي باحث في الرياضياتىالتطبيقية متواجد في الشيلي منذ2012 هو عالم في الرياضيات من الدوار (الريف) المعسكري ، الكلام الذي تكلمت عليه أنت هوتكلم عنه لي في احد المرات علما أن رحلته من الشيلي الى معسكر132 مليون مع أطفاله ......نتيجة لعد م الاهتمام به من الجزائر كان ينوي الدخول ويدرس في جامعة باب الزوار لكن الدينصورات............

  • mahdjoub

    شكرا لمقالك هذا واتمني منك المواصلة في كتابة هكذا مواضيع لعل احدا من مسؤلينا يقرأ مقالك فيتعظ به

    والله عيب علينا نملك كل شيء ولا نزال نقبع في الخلف ..لقد اعتدنا ان نلوم المسؤولين لكن الحقيقة ان الكل له نصيب في ما آل اليه الوظع ( حكاما ومحكومين).
    سلام

  • الموسطاش

    في بلدنا الحبيب للأسف كل الرؤساء منذ الاستقلال اجتهدوا في بناء البنى التحتية أو الأسمنت وأهملوا بناء الانسان ! بنوا طرقات جامعات مرافق و بلديات وولايات بأكملها لكن أين هي الروح الانسانية التي تسير هذه الهياكل أين الإطار المجتهد والخلوق و المبدع
    فعندما نتحدث عن منجزات وتطور الجامعة الجزائرية لا نتحدث عنها بمنظور الابحاث و الاكتشافات و براءات الاختراع و النشر و و و بل نتحدث عنها بمنظور عدد الأماكن البيداعوجية أي الكراسي !
    الكل يعلم آخر ترتيب مدرستنا من طرف اليونسكو : المرتبة 119 من بين 140

  • الاستفلال تحول

    الحكومة الجزلئرية بخيلة على شعبها هذا ما لاحظته منذ صغري
    كم من اموال صرفت على بلدان اخرى و الشعب الجزائري لم ينعم بالاستقلال اصلا
    كان غلطة بومدين انه يعاني من الحساسية تجاه الرفاهية
    كان يعمد خلق جو من القسوة و الصرامة على الشعب
    كان يفهم معنى الرفاهية بما يراه من دول اخرى
    لا يا سيد زمانك الرفاهية هي الانسانية هي الانضباط هي حب النفس و حب الوطن
    هي العلم هي البناء هي الفن هي الابداع هي الابتكار هي الاختراع هي الحياة
    الفترة التي جائت مباشرتا بعد الاستقلال كانت الارض الخصبة و حجر الاسلاس للازدهار