-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الصهاينة المشفّرون.. كِتابُ الصلوات

بقلم   د. جمال لعبيدي و د. أحمد رضوان شرف الدين
  • 346
  • 0
الصهاينة المشفّرون.. كِتابُ الصلوات

في مقال سابق نُشر بـ”الشروق” يوم 27 فبراير الماضي، قمنا بتعريف الصهيوني المشفَّر. في هذا المقال، سنتطرق لما يمكن اعتباره كتابه للصلوات والذي نقصد به قائمة المواضيع الرئيسية والثابتة التي يغذي بها بانتظام إيمانه بدولة عبرية.

“إسرائيل دولة ديمقراطية”

هذا واحدٌ من المواضيع الرئيسية في الدعاية الإسرائيلية ودعاية داعميها في الأوساط الإعلامية والثقافية. وإلى ذلك يضيف هؤلاء عادة عبارة “الديمقراطية الوحيدة في المنطقة” وينسون أن يزيدوا عليها “الدولة الاستعمارية الوحيدة في المنطقة”.

لقد أشرنا في المقال السابق إلى أنه لا يمكن لبلد خاضع للاستعمار أن يكون ديمقراطيا وذلك لسبب بنيوي يتجسد في بناء نظامه على التمييز العنصري؛ فـ”الديمقراطية”هنا تقتصر على الساكنة الاستعمارية كامتياز من بين الامتيازات الخاصة بها، بغضّ النظر عن وجود أحزاب وانتخابات، وإلا لقلنا إن الجزائر المستعمَرة كانت ديمقراطية وكذلك جنوب إفريقيا… وهذا هراء واضح. وعلى ذكر جنوب إفريقيا، نشير إلى أن دولة إسرائيل، المؤسَّسة على الفصل العنصري هي الأخرى، كانت الدولة الوحيدة التي ظلت تعترف بجنوب إفريقيا البيضاء إلى النهاية، ولهذا السبب كانت أيضا الدولة الوحيدة في العالم التي لم يقع استضافتها لحضور مراسم جنازة نلسون منديلا.

وهناك ما هو أخطر: عندما يكون الاستعمار استيطانيًّا، أي إحلاليًّا محل الساكنة الأصلية كما هو حال إسرائيل، فإنه يجسد أقصى درجات الخطر الإنساني لأنه يكون مصحوبا حتما بإبادة جماعية مثلما بيّنه التاريخ في عدة قارات، لاسيما في أمريكا وإفريقيا وأستراليا. في الجزائر على سبيل المثال، اقترن تأسيس الاستعمار الاستيطاني الفرنسي بانهيار التعداد السكاني وتراجعه إلى النصف تقريبا.

وشهدت فلسطين حدوث مسار مشابه إبان العقود الماضية، وهو يتواصل الآن من خلال المذابح الجماعية الجارية في قطاع غزة. وبالرغم من أن هذه الحقائق غير قابلة للنقاش، إلا أن التحجج بأن “إسرائيل بلدٌ ديمقراطي” وبأنها “البلد الديمقراطي الوحيد في المنطقة” ما زال متداولا وبقي يشكل نواة إيديولوجية الصهيوني المشفَّر خصوصا وإيديولوجية التغريب عموما فيما يتعلق بإسرائيل: إن انعدام الأمانة لا تحده حدود في هذا الباب.

تسعى إسرائيل باستمرار إلى القضاء على أبسط أمل في المستقبل وعلى أصغر مقوِّم من مقومات الهوية الفلسطينية؛ فأولُ شيء يقوم به المستوطِن الإسرائيلي على أرض فلسطين هو اقتلاع شجرة الزيتون التي يعود عمرها إلى ىمئات السنين وربما إلى آلاف السنين وذلك لأنها تهمس في أذنيه بلا توقف: “كنتُ هنا قبلك… أنا أسبقُ من كل واحد فيكم”. لا يستطيع المستوطن تحمُّل هذا العتاب الصامت، وبما أن خلف هذه الجريمة البيئية يكمن اعتراف إسرائيل المروِّع بأن الأرض فلسطينية، يجري القضاء على شجرة الزيتون وعلى الفلسطيني معا للسبب نفسه: “وكانت العين في القبر وتنظر إلى قابيل” (فيكتورهيغو).

يجب التصدي للخرافات الرامية إلى تقديم إسرائيل كـ”بلد ديمقراطي عادي” فيه يسارٌ ويمين متنافسان وحتى شكل من الاشتراكية متمثلا في الكيبوتسات الآهلة “برجال ونساء من اليسار”، الخ… في البلاد الخاضعة للاستعمار لا وجود ليسار ويمين بالمعنى العادي لهاتين الكلمتين، وإنما يسار ويمين استعماريان. وهذان الوجهان للسياسة في البلاد المستعمَرة سرعان ما يختفيان عند ظهور خطر داهم، كما أوضحه رئيس المجلس اليهودي المركزي في فرنسا بفخر واعتزاز على قناة أل سي إي،يوم 09 نوفمبر 2023، بقوله: “لم يعد في إسرائيل يمين ويسار والبلاد كلها في حربٍ في غزة”.

بالفعل، كلَّما تتعرَّض الطبيعة الاستعمارية لإسرائيل إلى الخطر، تحل سياسة الاتحاد المقدَّس مكان اللعبة السياسية الاعتيادية. لم يتجنَّد اليسار أبدا ضد إقامة المستوطنات، وفور قيام حماس بهجوم 07 أكتوبر، جمعته مع اليمين حكومة موحدة واختفى الشجار المعتاد بين الطرفين باسم “الديمقراطية”.

يعيد التاريخ نفسه: كذلك في الجزائر وفي غيرها من البلدان التي كانت خاضعة للاستعمار، كان اليسار الاشتراكي يدعم المشروع الاستعماري وينشر خطابا إنسانيا في الوقت نفسه. وكان ذلك الموقف من بين أهم أسباب التي أدت إلى انهيار نفوذه في عقر داره، وإدامة هذا الانهيار مدة طويلة. ولا نستبعد تكرار المسار ذاته فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية هذه المرة، إذ سجلنا خروج عفريت “الاشتراكية التغريبية” و”المتمركزة أوربيا” من قمقمه مجددا، لاسيما بواسطة خطاب الصهاينة المشفَّرين. مثال على ذلك: في معرض حديثه الداعم لليسار الإسرائيلي على قنوات التلفزيون الفرنسية، يوم 12 نوفمبر المنصرم، أبرز داني كوهن- بنديت “اليساري” المشهور، النائب الأوربي السابق والزعيم السابق لحركة ماي 1968 بفرنسا، أن “المهاجرين اليهود الأوائل الذين انطلقوا من البلدان الأوربية كانوا من الفقراء”. ألم يكن أنصار كومونة (بلدية) باريس، الذين جرى نفيهم إلى الجزائر بعد القضاء على ثورتهم في 1871، من “الفقراء” هم أيضا؟ ومع ذلك، كانت ذريتهم من بين المستوطنين المتشددين.

في القديم أيضا، طرحت أثينا “ديمقراطيتها” نموذجًا لجلب الحلفاء إلى جانبها في صراعها مع أسبرطة من أجل الهيمنة. لكن خطابها الإيديولوجي هذا لم يصمد طويلا أمام واقع تناقضاتها، واقع نظامها العبودي بالذات الذي أثبتت من خلاله أنها كانت أسوأ من أسبرطة ربما: هذا ما جعل الشعوب التي كانت أثينا تحاول جذبها بـ”ديمقراطيتها” المتمثلة في السيد والعبد تتخلى عنها شيئا فشيئا.

معاداة السامية

لا شك أنّ موضوع معاداة السامية هو المفضل لدى الصهيوني المشفر، وذلك لأن جذوره التاريخية ضاربة في القدم، على مستوى القارة الأوربية، ولأن إمكانية استعماله متوفرة على نطاق واسع جدا، ونخص بالذكر إطلاق التهمة بمجرد وجود شبهة. كان توجيه الاتهام بمعاداة السامية يتم، في البداية، في نطاق محدود وبقصد إدانة شكل من العنصرية إزاء اليهود، لكنه لم يبق كذلك وأصبح يشمل أيضا كل انتقاد لإسرائيل وحتى للصهيونية ذاتها. وهكذا أتيحت إمكانية اتهام الفلسطينيين، الخاضعين لسيطرة يهود إسرائيل، بمعاداة السامية واتهامهم أيضا، وهم النازحون منذ 75 عاما، بالسعي إلى تحويل “اليهود إلى شعب لاجئ مرة أخرى” وذلك من دون أن تثير هذه المفارقة استغراب الصهيوني المشفر. ونتيجة لذلك أيضا، بات من الممكن وصف هجوم 07 أكتوبر الماضي بأنه “أكبر عملية اغتيال معادية للسامية منذ سنة 1945″ (قناة  أل سي إي الإعلامية الفرنسية صباح 09 نوفمبر). لماذا وصفها بـ”المعادية للسامية”  بينما هي ضد دولة محتلة وفي إطار نزاع حول الأرض هو النزاع الإسرائيلي– الفلسطيني؟ وكيف نصف اغتيال أكثر من 32.000 فلسطيني؟ فهو ضد ماذا؟ أم أن مهاجمة أي إسرائيلي تتحول تلقائيا إلى معاداة للسامية ويجب التسليم بهذا الأمر من دون نقاش؟ لهذا التحريف وظيفة معينة، في الواقع، تتمثل في توفير نقطة التقاء للصهيوني المشفر مع الصهيوني المتزمِّت على الأساس التالي: حيث يوجد اليهود توجد إسرائيل، وبما أن إسرائيل هي دولة اليهود، بإمكان إسرائيل أن تطالب ببسط حمايتها على يهود العالم بأسره. إنه الهراءُ بعينه.

يذكّرنا هذا الموقف بموقف من ينددون بـ”العنصرية المعادية للبيض” كلما وقع ردُّ فعل حتمي وحتى عنيف أحيانا على العنصرية الأصلية “العادية”: “العنصرية البيضاء”.

يوم 12 نوفمبر الفائت، جرت في فرنسا مسيرة ضد معاداة السامية بدعوةٍ من فرنسا الرسمية برمّتها، أي المنظومة السياسية والإعلامية بكل مكوناته. وكُتب على اللافتة الأمامية للمسيرة، وهي الوحيدة التي سُمح بها، شعار “لا لمعاداة السامية” من دون شعار “لا للعنصرية” الذي اقترحته بعض المنظمات المناهضة للعنصرية. لماذا جرى رفضه؟ هل لأن معاداة السامية هي شكلُ العنصرية الوحيد الممنوع في فرنسا؟ ولماذا لم يشمل المنع الأشكال الأخرى؟ هل هذا يعود، في ظل الأحداث الجارية المتعلقة بالنزاع الإسرائيلي– الفلسطيني، إلى وجود افتراض مفاده أن ذلك الشكل تحديدا يخص الساكنة الإسرائيلية، واليهودية بالتعميم، وبالتالي ينظر إلى هذه الساكنة على أنها غربية، وينظر إلى هذا الشكل على أنه غير مقبول وأسوأ أشكال العنصرية؟ هذه الرسالة واردة ضمنا، مهما قيل بهذا الشأن، وتكشف بوضوح عن النظرة المميزة للصهيوني المشفر لهذه المسألة.

وعلى كل حال، فقد اكتملت الدائرة بناء على ذلك، إذ تمكنت الصهيونية المشفرة اليسارية في فرنسا من الجمع، تحت راية معاداة السامية همّها الأوحد، بين المنتسبين إلى اليمين واليمين المتطرف المعادي للأجانب وبين الصهاينة. وهكذا توفرت الفرصة لرئيس حزب “التجمع الوطني” الفرنسي، جوردان برديلا، كي يصرح بأن “حزب التجمع الوطني هو أفضل درع واق للفرنسيين أتباع الديانة اليهودية”. أما إيريك زمور، الزعيم الآخر للتيار المعادي للأجانب، والذي أزاح عن نفسه أول الأقنعة بإعلانه أنه فرنسي قبل كل شيء، بغية الحصول على تأييد بعض أقسام اليمين المتطرف القومي والمعادي للأجانب أثناء الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة، فقد بات يصرخ بكل قواه بأنه يهودي، طالما يتعين الدفاع مع إسرائيل عن القيم الغربية “اليهودية– المسيحية” ضمن جبهة واحدة.

يجري إذن صنعُ الاتحاد المقدس هنا أيضا، وتخليص الغرب من ذنبه المتولد من اضطهاد اليهود طيلة قرون ومن إنتاج النازية والمحرقة وجعله من معاداة السامية واحدا من الثوابت الثقافية والدينية. ويجري التعويض عنه بنقل جريمة معاداة السامية إلى الفلسطينيين، إلى العرب، إلى المسلمين، إلى المهاجرين، ولمَ لا إلى الجنوب الجماعي بأسره، بما أنه وقع التلميح إلى ذلك تمهيدا للإفصاح عنه صراحة في وقت لاحق.

ومع ذلك، كشفت تلك المسيرة ضد معاداة السامية، رغم كافة هذه الحيل الإيديولوجية، عن الفارق الشاسع بينها وبين مسيرات دعم فلسطين في فرنسا نفسها كما في باقي بلدان الغرب. في الأولى، لم يجرؤ المشاركون على التعبير صراحة عن دعمهم لإسرائيل، خوفا من إنقاص أعدادهم، بينما في الثانية وقد كانت عديدة، برز تأييد فلسطين دون غموض ولا لبس، فضلا عن الفارق الهائل بينهما المتمثل في حضور الشباب فيها، قوة المستقبل.

مسلك الضحية

هذه سمة أخرى وحيلة إيديولوجية إضافية للصهيوني المشفر.

06 نوفمبر 2023، آن سنكلير، نجمة التلفزيون الفرنسي السابقة، تتنهَّد عبر جهاز التلفزيون حول أحداث غزة: “نحن [اليهود] وحيدون.. أشعر بالوحدة”. وهي بذلك تعبّر عن عودة مسلك الضحية الذي يوفر للصهيونية ميزة مؤكدة، كونه جرى اختباره بنجاح كعامل جامع للطائفة اليهودية حول خوفها الضارب في القدم، الخرافي، من الاضطهادات والمعازل.

إنه ذنب الغرب التاريخي والمستمر تجاه اليهود والذي يشكل وقودا لإيديولوجية الضحية ونقطة التقاء الصهاينة والصهاينة المشفرين. وعندما يقدم الرأي العام العالم على شجب الجرائم الصهيونية، كما هو الحال الآن، فإن إسرائيل والصهيونية والمثقفين الصهاينة المشفرين لا يرون في ذلك سوى دليل إضافي على عزلة اليهودي.

يقول الصهيوني المشفر متنهِّدا مرة أخرى: “لإسرائيل حق الدفاع عن نفسها “، وهو زعم آخر يرتبط بمسلك الضحية ولم يسبق أن بلغ استعماله، في غير محله، الدرجة التي بلغها مؤخرا؛ فقيادة إسرائيل ومعها قيادات الولايات المتحدة وبلدان غربية أخرى لا تتوقف عن ترديده. كنا نسمع “الكاو بوي في أفلام طفولتنا يقولون أيضا إنهم “يدافعون عن أنفسهم” أثناء ارتكابهم للمذابح بحق “الهنود”.

بوصفتها دولة احتلال، لا تملك إسرائيل على الإطلاق حق الدفاع عن نفسها.

“الحرب الوجودية”

يعدّ الخطاب الذي يزعم بأن إسرائيل تقوم بـ”حرب وجودية” شكلا آخر من أشكال التعبير عن مسلك الضحية. يقع ترديد هذا الخطاب بلا كلل أو ملل في الوقت الحالي، سواء من طرف إسرائيل أو من طرف المثقفين الصهاينة المشفرين ووسائل الإعلام الداعمة، وذلك في إعادة توظيف، على ما يبدو، لحجّة رائجة في سياق حرب أوكرانيا.

اذا التزمنا بالحقائق وحدها، يكون الفلسطينيون هم الذين يخوضون معركة وجودية من أجل البقاء.

تقوم إسرائيل، باسم “حقها في الوجود”، بإلغاء حقّ فلسطين في الوجود، وأحسن دليل على ذلك هو إقدامها المتواصل على قضم أراضي الفلسطينيين بالضفة الغربية والقدس والذي أدى إلى استحالة وجود دولة فلسطينية، وبالتالي استحالة وجود دولتين، واحدة فلسطينية وأخرى إسرائيلية جنبا إلى جنب. هل تركت إسرائيل للشعب الفلسطيني وللشعوب العربية التي تدعمه بديلا عن إزالتها؟

وأما خبث قادة بعض الدول العربية المجاورة، فهو بلا حدود. إنهم يغلقون المعابر بذريعة أن إسرائيل تسعى إلى تفريغ غزة من سكانها وإحداث نكبة جديدة. لا يفكّر هؤلاء حتى في الحل البسيط المتمثل في مساعدة الفلسطينيين، التدخل من أجل وقف العدوان الإسرائيلي، أو من أجل فرض التموين في غزة على الأقل. إن موقفهم يعادل عدم تقديم العون لشخص معرَّض للخطر، موقف شبيه بموقف إسرائيل من الفلسطينيين: كائنات بشرية مسكينة، مقذوفة، مطرودة، منبوذة ومضطهدة. إنّ أولئك القادة يخشونهم، في الحقيقة، مثل إسرائيل وربما أكثر من إسرائيل لأن الفلسطينيين يحملون روح الاحتجاج والانتفاض والتغيير.

تسعى إسرائيل باستمرار إلى القضاء على أبسط أمل في المستقبل وعلى أصغر مقوِّم من مقومات الهوية الفلسطينية؛ فأولُ شيء يقوم به المستوطِن الإسرائيلي على أرض فلسطين هو اقتلاع شجرة الزيتون التي يعود عمرها إلى ىمئات السنين وربما إلى آلاف السنين وذلك لأنها تهمس في أذنيه بلا توقف: “كنتُ هنا قبلك… أنا أسبقُ من كل واحد فيكم”.

ويعتمد القادة الغربيون، من جانبهم، على القادة العرب الخاضعين لهم، وفي الوقت نفسه يدينوهم كفاسدين وطغاة… بل يصل الاستخفافُ بهم الذروة إذ يحمِّلونهم هم كذلك مسؤولية التخلي عن الفلسطينيين والسكوت عن قضيتهم؛ فيضربون هكذا عصفورين بحجر واحد في خضم حملة هدم معنويات العرب: تشجيع الخيانة وفضحها في الوقت ذاته.

أمام كل ذلك، أمام خيانات من يُفترض أنهم من ذوي القربى، تزداد المقاومة الفلسطينية في غزة مثالية، وأمام قوة إسرائيل تقف دليلا قاطعا على أن الكفاح ممكن، مجسدا إدانة مدوية لكل الحجج الانهزامية المقدَّمة من قادة الدول العربية المجاورة، لاسيما تبرير موقفهم بـ”التفوُّق الساحق لقوة” الخصم، فتلقي على سلوكهم الشائن ضوءا أكبر من ذي قبل.

يقع ذلك بالتزامن مع بروز صورة مشرقة ومثيرة للإعجاب والتقدير: صورة كرامة أهل غزة والسلوك الإنساني الذي يتحلون بها في هذه الظروف المتسمة بأقصى درجات انعدام الإنسانية. هل لاحظتم كم هم متضامنون رغم التجويع ورغم التعطيش ورغم المحاولة الرامية إلى أن يجعلوا منهم “حيوانات”؟

ولا شك أنكم لاحظتم أيضا كم هو جميلٌ وجه ذاك الشيخ الفلسطيني، الواقف بين أنقاض إحدى البنايات وعيناه تخاطبان عبر الشاشة أعيننا نحن المتفرجين، المذنبين العاجزين، ليقول لنا: “العالم العربي مريض ونحن دواؤه”.

تقوم إسرائيل، باسم “حقها في الوجود”، بإلغاء حقّ فلسطين في الوجود، وأحسن دليل على ذلك هو إقدامها المتواصل على قضم أراضي الفلسطينيين بالضفة الغربية والقدس والذي أدى إلى استحالة وجود دولة فلسطينية، وبالتالي استحالة وجود دولتين، واحدة فلسطينية وأخرى إسرائيلية جنبا إلى جنب. هل تركت إسرائيل للشعب الفلسطيني وللشعوب العربية التي تدعمه بديلا عن إزالتها؟

نشاهد طوابير طويلة لفلسطينيين في الطرقات وهم يتعرَّضون للقصف في الشمال وفي الجنوب، فندرك معنى حرب الإبادة، حرب تُشنُّ باسم القيم والدفاع عن الحرية والديمقراطية الغربية. يا له من مزاح شنيع، ومن إهانة  للغرب بأسره الذي يريد قادته أن يجعلوا من شعوبه متواطئين مع المجرمين. لمعرفة ما جرى في 1948، النكبة، النزوح القسري والدموي للفلسطينيين، يكفي أن ننظر إلى ما يجري في غزة اليوم.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!