-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الضيف المرتحل.. دروس لا غنى عنها

سلطان بركاني
  • 866
  • 0
الضيف المرتحل.. دروس لا غنى عنها

جميعنا أحسّ بأنّ رمضان هذا العام كان أقصر رمضان أدركه.. مرّ كأنّه ساعات معدودات، ما يدلّ على أنّنا ربّما نعيش في آخر الزّمان والعلم عند الله: عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلّى اللَّه عليه وسلّم-: “لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، فَتَكُونَ السَّنَةُ كَالشَّهْر، وَيَكُونَ الشَّهْرُ كَالْجُمُعَة، وَتَكُونَ الْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ، وَيَكُونَ الْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ، وَتَكُونَ السَّاعَةُ كَاحْتِرَاقِ السَّعَفَة” (صحيح الجامع). الزّمان يتقارب، والدّنيا قد ارتحلت مدبرة، والآخرة قد ارتحلت مقبلة.. الحياة الباقية اقترب أوانها، فما الذي أعددناه لها.. سنوات أو عقود أو قرون تمضي سريعا ويحين وعد الآخرة، ونرجع إلى الله ونوقف بين يديه للحساب: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُون﴾.

رمضان يتأهّب للرّحيل، بعد أن مكث فينا عدّته واعظا بدروسه التي طالما ذكّرنا بها كلّ عام.. ذكّرنا بأنّ التقوى هي خير وأنفع زاد يتزوّد به العبد المؤمن وهو يخوض غمار هذه الحياة المليئة بالفتن، وخير عدّة يصطحبها وهو يسير في طريقه إلى الله والدّار الآخرة.. ((وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)).. رمضان ما شرع صيامه ولا سُنّ قيامه إلا لتحصيل هذا الزّاد، يقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.. والتقوى هي أن يخاف العبد مولاه وخالقه بالغيب ويستشعر رقابته سبحانه واطّلاعه على عبده ويستحي من نظر العليم الخبير إليه في كلّ وقت وفي كلّ مكان، بين عينيه دائما قول الله تعالى: ((أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى)).

رمضان يعلّمنا أنّ البطن إذا جاعت، شبعت الجوارح وثقلت عن معصية الله ونشطت في طاعة الله، وإذا شبعت البطن وأتخمت، جاعت الأعضاء وتحرّكت تبحث عن المعاصي.. وهكذا النفس؛ لا تبلغ التقوى حتّى تؤدَّب وتهذّب وتُلجم ويكبح جماحها ويُخالف هواها: ((وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)).. إنّه لن يبلغ التقوى من يطيع نفسه في هواها ويسير خلفها إلى حيث تريد ويبذل لها كلّ ما تشتهي؛ إن أرادت الأكل أكل في أيّ وقت، وإن طلبت النّوم نام ولو في وقت الصّلاة أو العمل، وإن تطلّعت إلى الشهوة المحرّمة خضع لها وآتاها طلبها.

في هذه الأيام الأخيرة من رمضان.. ينبغي لكلّ واحد منّا أن يفتّش في نفسه وقلبه، ما الذي غيّره رمضان في قلبه؟ هل بدأ يجد في قلبه الخوف من مولاه؟ كان في أيام رمضان يستشعر رقابة الله في قطرة الماء يتحرّز أن تتجاوز حلقه، فهل أصبح يتحرّز من لقمة الحرام أن تدخل إلى جوفه والله ينظر إليه ويراه؟ هل أصبح يتحرّز من كلمة الحرام أن تخرج من لسانه والله يسمعه؟ هل أصبح يتحرّز من نظر عينه إلى الحرام والله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور مطّلع عليه؟ الحرمان منتهى الحرمان أن يخرج العبد من رمضان خاوي الوفاض من تقوى الله وخشيته والخوف منه، يخرج بنفس لا تزال جريئة على معصية الله، جريئة على إضاعة الصّلوات وتأخيرها ونقرها! يخرج بقلب قاس ونفس غافلة وروح مثقلة.

رمضان يرتحل، بعد أن علّمنا أنّ التوبة إلى الله أفضل خيار في هذه الحياة، بل لا خيار آخر للعبد غيره، وهو الخيار الذي به سعادة الدنيا والآخرة.. لا سعادة للقلب ولا انشراح للصّدر ولا أنس للرّوح إلا بتجديد التوبة وإدمانها وتكرارها بعد كلّ ذنب وكلّ خطأ: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾.. ما منّا من أحد إلا وقد وجد من الحلاوة والأنس في نفسه وقلبه في أيام رمضان، بقدر صدق توبته، يحسّ العبد التائب بصدق أنّه ولد من جديد وأنّه يسير في الطّريق الصّحيح وأنّ مولاه قد تلقاه بالقبول وفرح بتوبته، وينزاح عنه الهلع من الموت، ويجد للصّلاة لذّة ولتلاوة القرآن حلاوة ولذكر الله والاستغفار والدعاء أنسا.. هذا في توبة واحدة يعقدها العبد في شهر رمضان، كيف لو كانت التوبة ديدنا ودينا له في كلّ وقت وفي كلّ حين؟

رمضان علّمنا أنّ ديننا ينبغي، بل يجب، أن يكون أغلى ما نملك وأنّ الاهتمام به يجب أن يكون على رأس أولوياتنا.. لا يجوز أبدا ولا ينبغي أن تكون أنفسنا وذرياتنا وأموالنا وتجاراتنا أحبّ إلينا من ديننا: يقول الله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين﴾.. وقد قضى الله أنّ من حفظ دينه استمتع بدنياه، ومن ضيّع دينه تسلّطت عليه الهموم والأحزان ولو ملك من الدّنيا ما يكفيه ويغنيه ويزيد.. تعلّمْ هذا أخي المؤمن واحفظه جيّدا، واستحضر دائما حديث النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: “من كانت الدنيا همه، فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة“.

تعلّم أخي الشابّ أنّ النّجاح الحقيقي النّافع في هذه الدنيا مرتبط بالنّجاح في عمل الآخرة.. تعلّم وكن على يقين بأنّ تأخير الصلاة بحجة حضور اجتماع من الاجتماعات وترك السنن الرواتب لانشغال بموعد مهمّ! وتناسي ورد القرآن والأذكار لأجل خرجة أو لقاء مهمّ… كل هذا ومثيله يفقد العبد لذة النجاح الحقيقي.. إذا لم تنجح في حق الله فلن يكون لنجاحك الدنيوي طعم، ومهما كان نجاحك الظّاهر في أمور دنياك فستفقد لذّة الفرح إذا لم تكن مهتما بنجاحك في الآخرة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!