العربية بين “الغبْرَطة” والـ”واي واي”
فجأة، تقرّر وزيرة التربية نورية بن غبريط تدريس اللهجات العامية ابتداء من سبتمبر المقبل إذا وافقت الحكومة في اجتماعها القادم على توصيات الندوة الوطنية لـ”إصلاح” التعليم، أي إن هذا القرار الخطير سيُطبّق بعد شهر واحد فقط من الآن، ما يعني أن الأمر يتعلق بمؤامرة محبَكة دُبِّرت بليل، وتعمّد فيها أصحابُها عنصر المفاجأة لفرض الأمر الواقع على الجزائريين، عوض طرح المسألة على مختلف فعاليات المجتمع لمناقشتها ما دامت تتعلق بمصير الملايين من أطفاله.
الأمر يتعلق إذن برغبة التيار الفرنكفوني التغريبي المتغلغل في دواليب الدولة، في فرض تصوراته الإيديولوجية بطريقة ديكتاتورية على كل الجزائريين، وقد سبقتها حملة إعلامية شرسة يقودها أنصار هذا التيار لتسويق هذا القرار وتبريره، من خلال التهجّم على اللغة العربية وكيل أبشع التهم لها؛ إذ زعم مستشارٌ سابق بالوزارة أن “العربية لغة أجنبية بالنسبة إلى التلميذ وبعيدة كل البعد عنه” وأن الشروع في تدريسها مباشرة يسبّب له “صدمة عنيفة” والحل يكمن في تلقينها له تدريجيا عن طريق الاستعانة باللهجات العامية.. ولنا أن نتساءل: كيف يمكن للتعليم أن يتطور بلغة الـشارع والـ“واي واي“؟ وكيف يمكن أن تكون عشرات اللهجات الأمازيغية والعربية المستعمَلة في شتى أنحاء الوطن مدخلاً صحيحاً لتعليم العربية الفصحى!؟
هذا الإطار ادّعى أن التلميذ لا يتعامل بالفصحى إلا في المدرسة، وهي مغالطة فادحة يكذّبها الواقع؛ فأغلب الأطفال الجزائريين يتابعون منذ سن الثانية أو الثالثة من أعمارهم الفضائيات العربية الخاصة بالرسوم المتحركة، وهم يرددون جملاً من البرامج الكرتونية وكذا أغانيها الفصيحة في البيوت والشوارع، ما يعني أن اللغة العربية ليست “غريبة” عن أطفالنا أو “بعيدة عنهم كل البعد” كما زعم هذا المستشار، وهم يتعاملون معها، ولو سماعياً، طيلة ثلاث إلى أربع سنوات من أعمارهم قبل دخولهم المدرسة، وبعض الأولياء يحتاطون أكثر للأمر ويرسلون أطفالهم إلى المساجد لحفظ سورٍ من القرآن الكريم وتعلُّم القراءة والكتابة استعدادا للأولى ابتدائي وكبديل ناجع للتعليم التحضيري غير المتاح لجميع التلاميذ، فعن أي “صدمة عنيفة” يتحدث هذا المستشار؟ هل يدرسون قصائد الشنفرى وامرئ القيس ولغة “أرخى سدوله وناء بكلكل” في الأولى ابتدائي؟!
المسألة واضحة، وتتعلق برغبة التيار الفرنكفوني المتغلغل في دواليب الدولة في تسويق أي ذريعة لضرب العربية في الجزائر، وإضعافها و“غبْرطة” لغة الجزائريين التي تشكّل عقدة مستحكمة لديهم، وهم يعادونها منذ عقود، ولذلك حينما يتشدق أحد إطارات الوزارة بأن المسألة “بيداغوجية بحتة” ولا علاقة لها بالإيديولوجيا، فهو يراوغ ويحاول تضليل الجزائريين لخدمة أجندة لغوية مشبوهة تضرب العربية في الصميم وتؤسّس لصراع لغوي عنيف سيضعف حتما الانسجام الاجتماعي ويهزّ استقرار البلد ووحدته.
لقد كانت العربية وعامّياتُها، وكذا الأمازيغية، تعيش في تآلف وانسجام بالجزائر منذ قرون عديدة، ولكن التيار التغريبي الفرنكفوني أبى إلا إحداث فتنة لغوية، وافتعال صراع بين ما يسميه “اللغة الأم” واللغة العربية “الغريبة” عن التلاميذ.
قد بدت البغضاء من أفواه هؤلاء وهم يصفون العربية باللغة “الغريبة” و“الأجنبية“، وما تخفي صدورهم أعظم.. إنها محاولة من الأقلية التغريبية لفرض تصورها على 40 مليون جزائري رغما عنهم وتحقيق ما عجزت عنه فرنسا طيلة 132 سنة من الاحتلال، ما يفتح البابَ لفتن وصراعات الجزائرُ في غنى عنها، فضلاً عن زرع قنبلة ستفكك البلد مستقبلاً على أسس لغوية إذا نُفذ هذا المشروع الخطير. والكرة الآن في مرمى مختلف فعاليات المجتمع للتصدي له قبل فوات الأوان.