العلبة السوداء.. لها حكمة
يجهل الكثير أنه كما للسلطة علبة سوداء للشعب أيضا علبة سوداء يحتفظ فيها بجينات الرفض أو القبول، الاحتجاج أو المهادنة، العمل أو التهاون، الاستهلاك أو الإدخار… هذه العلبة السوداء هي التي يُسمّيها بعض الباحثين في الإستراتجية بالعقد غير المرئي. وهو عقد خلافا لبقية العقود الأخرى المعروفة كالدستور والقانون والأعراف بالرغم من أنه غير مرئي، إلا انه هو الذي يحكم العلاقة بين أفراد المجتمع، وبين المجتمع والسلطة في آخر المطاف، بل ويحكم العلاقة بين أفراد الخلية الأولى في المجتمع: الأسرة.
يتجلى داخل العائلة في شبه اتفاق غير معلن بين أفرادها حول تفاصيل الحياة، بما في ذلك الزوج والزوجة، يُحافظ على التوازنات بينهما ويمنع الصراعات أو يجد لها بدائل للحل، دون الإفصاح عن ذلك أو الإعلان عنه وتدوينه طيلة الحياة…
ويبرز على مستوى المجتمع في شكل اتفاق غير مرئي بين الناس على قبول هذا السلوك أو رفضه، على التفاعل مع هذه السياسة أو تجاهلها، على القيام بالفوضى أو التزام الانضباط، على المشاركة في الانتخابات أو العزوف عنها، على تصديق الحكومة فيما تقوم به أو تكذيبها، على اعتبار أن هناك ديمقراطية حقيقية أو مزيفة، على تصنيف هذا أو ذاك، بين صادق ومنافق وبريء ومذنب وكفء وجاهل وإمّعة وجبان وشجاع… الخ.
هذا الاتفاق غير المرئي ينبغي تذكره باستمرار في أي مستوى من المستويات، لأنه في آخر المطاف هو الذي يحكم العلاقة ويفسرها، وهو مفتاح معرفة تطوراتها المستقبلية.
وقد تذكرته أمس وأنا أتابع بيان مجلس الوزراء الذي من بين ما جاء فيه: “من حق المواطن أن يعول على العون العمومي وأن يتعامل معه بثقة، ومن حقه أن يحظى بخدمة عمومية ذات جودة مهما كان وضعه الاجتماعي، ومهما كان مكان إقامته على امتداد التراب الوطني”، وسألت نفسي: كم من الجزائريين يعتقد أن مثل هذه الإشارات ستترتب عنها آثار بخصوص علاقته بالخدمة العمومية، وكم منهم يؤمن بأن العقد غير المرئي الساري المفعول هو الذي يحكم حاضرها ومستقبلها وينبغي أن يتصرف على أساسه؟
بل كم من الجزائريين يعتبر أن ما أُعلن في بيان الحكومة هو الذي يحكم أو سيحكم الواقع الذي يعيش؟
وأتوقفت عند هذا الحد لأقول:
يبدو أننا نمر بمرحلة ينبغي أن نحمد الله علي السلامة فيها، ليس نتيجة حكمة السياسات العامة أو الخاصة إنما نتيجة حكمة العلبة السوداء للجزائريين، التي مازال الاتفاق غير المرئي بين أفرادها يقول: بلادنا مازالت في حاجة إلى صبر ورزانة وتعقل وغض الطرف عن الكثير من التجاوزات… والأكثر من ذلك في حاجة إلى ثقة في المستقبل وإلى أمل.