-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الفرار من الحرّ إلى رحمة الله

سلطان بركاني
  • 2061
  • 0
الفرار من الحرّ إلى رحمة الله

ونحن نكابد في هذه الأيام حرّا ضاقت به الصّدور والأنفاس، وثقلت الأبدان والأرواح، حتّى صار حديث جُلّ النّاس عن ارتفاع درجات الحرارة التي تجاوزت 48 درجة في بعض مناطق الوطن؛ يتداول بعض النّاشطين على مواقع التّواصل آيات وأحاديث ومواعظ وعبارات تذكّر بحرّ يوم القيامة يوم تدنو الشّمس من الرّؤوس، وبحرّ جهنّم الذي يساوي سبعين ضعفا من حرّ نار الدّنيا.. ومثل هذه الذّكرى ضرورية للقلوب، متى لم تتجاوز الحدّ المطلوب لتصل إلى تيئيس النّاس من رحمة الله غافر الذّنوب وساتر العيوب.

إلى جانب الحديث عن عذاب الله ونكاله الذي يَنتظر المتجبّرين والظّالمين والمفسدين في الأرض، ينبغي أن يشاع بين عامّة النّاس حديثٌ آخر عن رحمة الله بعباده المؤمنين، مهما بلغت ذنوبهم، إن هم أحسنوا الظنّ بربّهم الكريم وفرّوا من عقابه إلى رحمته وتابوا ورجعوا إليه منكسرين؛ فهو -سبحانه- يبتلي عباده في هذه الدّنيا بالسرّاء والنعم ليشكروه فيزيدهم ويأجرهم، وبالضرّاء وضيق الحال ليفرّوا إلى رحمته وفضله، فيفرّج عنهم ويثيبهم، ومن ذلك أنّهم يبتليهم في الصّيف بحرّ تضيق به معايشهم ليتذكّروا الجنّة حيث لا شمس ولا حرّ ولا زمهرير ولا قرّ، حيث الظّلال الوارفة والنّسمات العليلة، حيث العيون الباردة والماء العذب الزّلال.

الحنّان المنّان -سبحانه- ما خلقنا إلا لنعبده فيرحمنا ويدخلنا جنّته ((إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ))، ولكنّه الشّيطان من يريد لنا أن نسيئ الظنّ بمولانا الكريم، ونيأس من عفوه ورحمته ونهرب منه إلى حيث سخطه وعذابه؛ فمن أخطر نزغات الرّجيم في الدّنيا دار الامتحان أن ييئس العبد من رحمة الله، ويوحي إليه بأنّ الجنّة صعب دخولها، وهي فقط للصّالحين الذين يقومون الليل ويصومون النّهار ويتصدّقون ويحجّون ويعتمرون ولا يذنبون!.. وينسيه أنّ الرؤوف الرّحيم قال: ((وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ))، وقال: ((قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم))، وقال نبيّه المبعوث رحمة للعالمين: “إنّ لله -عز وجل- مائة رحمة، فمنها رحمة يتراحم بها الخلق وبها تعطف الوحوش على أولادها، وأخّر تسعا وتسعين رحمة إلى يوم القيامة”.. سبحانه ما أوسع رحمته! جعلها 100 جزء، وادّخر 99 جزءًا منها ليوم القيامة؛ ينثرها نثرا حتّى تندهش الخلائق لسعة رحمته، ولولا أنّه كتب أنْ لا موت يومها لمات النّاس من فرط محبّة القلوب وتعلّقها بأرحم الرّاحمين.. بل لعلّ من عباد الله من يتمنّون يومها أن يعودوا إلى الدّنيا ليقضوا حياة أخرى طائعين منيبين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

روى الإمام الطبراني بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: “والذي نفسي بيده ليدخُلنّ الجنة الفاجر في دينه الأحمق في معيشته، والذي نفسي بيده ليدخلن الجنة الذي قد محشته النار بذنبه، والذي نفسي بيده ليغفرن الله يوم القيامة مغفرة يتطاول لها إبليس رجاء أن تصيبه”.

الله -جلّ شأنه- أرحم بالعبد من والديه وأحبِّ النّاس إليه، بل هو أرحم به من نفسه، في هذه الدّنيا، كيف بيوم الرّحمة الكبرى! روى الإمام البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قدِمَ على النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- سَبيٌ، فإذا امرأةٌ من السبيِ تبحث عن وليد لها، وكانت إذا وجدَتْ صبيًّا في السبيِ أخذَتْه، فألصقَتْه ببَطنِها وأرضعَتْه، فقال لنا النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: أ ترَون هذه طارحَةً ولدها في النار؟ قُلنا: لا، وهي تقدِرُ على ألا تطرَحه، فقال صلى الله عليه وسلم: “لَلّهُ أرحَمُ بعباده من هذه بولدها”.

فيا الله! ما أرحم مولانا الحنّان المنّان!

هذا ما كان الصّالحون يملؤون به قلوبهم فتخفق بمحبّة الله وتعظيمه، وتنطلق جوارحهم بطاعته وطلب مرضاته وتنتهي عن معصيته ومخالفة أمره.. كانوا يعبدون الله بالخوف والرّجاء، لكنّهم يغلّبون المحبّة على الخوف وعلى الرّجاء؛ ها هو إمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس -رحمه الله- لمّا دخلوا عليه في العشية التي قبض فيها قال بعضهم: يا أبا عبد الله، كيف تجدك؟ قال: “ما أدري ما أقول لكم، إلا أنكم ستعاينون غدًا من عفو الله ما لم يكن لكم في حساب”.. نعم، سنجد ونعاين غدا يوم القيامة من عفو الله ما لم يكن في حسباننا وما يدهشنا وتخفق له قلوبنا وتتمنّى أن تنعم برؤية وجه الله الحنّان الكريم الرّؤوف الرّحيم.

ما أحرانا ونحن نقرأ أو نسمع هذه الأحاديث والكلمات التي تنزل على القلوب والأرواح بردا وسلاما وتملؤها لله محبّة وتعظيما وإجلالا، أن نعود أدراجنا لنسأل: ما المنتظر منّا وما المفترض فينا أن نفعله؟ هل المفترض فينا أن ننطلق إلى المعاصي والذّنوب وإلى إضاعة الطّاعات وتأخير الصّلوات وهجر القرآن والغفلة عن الموت وما بعده، ونحن نقول: إنّ الله غفور رحيم؟! لا والله؛ لا يليق بنا أبدا أن نقابل عفو الله ورحمته بالغفلة عنه ومعصيته.. الواحد منّا لو أحسن إليه مخلوق مثلُه لاستحيى منه أن يخالفه، كيف بالخالق سبحانه الذي يخلق ويرزق ويعافي ويشفي ويبارك ويحفظ ويكلأ؟ هل يليق أن نُعرض عنه سبحانه وهو الذي يدعونا بالليل والنّهار لنستغفره ونتوب إليه ونسأله من خزائن رحمته وفضله؟..

في الحديث القدسيّ أنّ الله يقول: “يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم”.. سبحانه يبسط يده بالليل ليتوب مسيئ النّهار، ويبسط يده بالنّهار ليتوب مسيئ اللّيل، وينادي في ثلث اللّيل الأخير من كلّ ليلة: “مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَه”.. سبحانه يُقبل على عباده بعفوه ورحمته ويشتاق إلى توبتهم وعودتهم: في بعض الآثار أنّ الله تعالى قال لنبيّه داود عليه السّلام: “يا داود، لو يعلم المدبرون عنّي كيف انتظاري لهم ورفقي بهم وشوقي إلى ترك معاصيهم، لماتوا شوقاً إلي وتقطعت أوصالهم من محبتي.. يا داود هذه إرادتي في المدبرين عني فكيف إرادتي في المقبلين عليّ، يا داود أحوج ما يكون العبد إلي إذا استغنى عني، وأرحم ما أكون بعبدي إذا أدبر عني، وأجل ما يكون عندي إذا رجع إلي…”.. فلا إله إلا الله! ما أعظم رحمة الله! وما أشدّ غفلتنا عنه سبحانه! مهما بلغت ذنوب العبد فإنّه متى ما تاب وعاد ورجع وبكى، فإنّ الله يتوب عليه ويَقبله ويُقبل عليه، بل ويفرح بتوبته وهو الغنيّ عنه سبحانه: كيف لا وهو القائل كما في الحديث القدسيّ: “يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة”.

روى الإمام الفضيل بن عياض رحمه الله واقعة عاينها قال: “انطلقتُ يوما إلى المسجد فسمعت في الطّريق امرأة تصرخ بولدها، وما هي إلا هنيهة حتى خرج الصبيّ هاربا وهو يبكي، فأغلقتْ دونه الباب، فمكث الصبي قليلا ونظر يمنة ويسرة فلم يجد له مأوى، فرجع إلى أمّه، فوجد الباب مغلقا، فوضع خده على عتبة الباب ونام، فلما خرجت أمه ورأته على تلك الحال، لم تملك إلا أن رمت بنفسها عليه وأخذت تقبله، وتقول: يا ولدي، أين تذهب عني؟ من يؤويك سواي؟ ألم أقل لك لا تخالفني، ثم ضمته إلى صدرها وأدخلته إلى بيتها”.

إنّ الله أرحم وأحنّ على عبده المؤمن التائب العائد النّادم من هذه الأمّ بولدها.. لكنّ رحمة الله ينبغي ألا تجرئنا على معصيته ومخالفته، إنّما ينبغي أن تحملنا على محبّته وتعظيمه والشّوق للقائه ورؤية وجهه الكريم في الجنّة.. فلْنتبْ إلى الله ولنستح منه حقّ الحياء أن نعصيه وهو يرانا وينظر إلينا.. لنستح منه أن يدعونا مناديه عند صلاة الصّبح: “الصّلاة خير النّوم”، ثمّ يرانا نغطّ في نومنا ونؤثر راحة النّوم الزّائلة على لذّة طاعته ونعيم محبّته.. لنستح منه أن يرانا ويطّلع علينا ونحن ننظر إلى ما حرّم، إلى العورات والشّهوات، وهو الذي وعدنا جنّات تجري من تحتها الأنهار فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين.. الواحد منّا يستحي من أبيه أن يراه وهو ينظر إلى الكاسيات العاريات في الشّارع ويستحي منه أن يراه وهو ينظر إلى صورة محرّمة أو مقطع سيّئ، فكيف لا يستحي من الواحد الأحد الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور؟

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!