-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

القابلية للاستبداد والاستعباد

القابلية للاستبداد والاستعباد

أثارَ تعبير السيد مالك بن نبي رحمه الله تعالى “القابلية للاستعمار” استهجانا كبيرا أول مرة، لكن الأيام أكّدت فكره الثّاقب وحصافة تأملاته وبُعد فهمه وعُمق تحليله لوضع مجتمعه وأمّته في عصره.

ولعلّنا نستأذن روحه الطاهرة في الاسترشاد بهذا المصطلح مع تحويره بما يكشف النقاب عن واقع مجتمعنا وأمتنا هذه الأيّام. إننا نعيش ظاهرة “القابلية للاستبداد والاستعباد”.

الاستبداد مرضٌ نفسي، وعِلة في الحَكامة، واعتداء على إرادة المجتمع، وفساد في الطبع. والمُستعبِد ظالمٌ عدو للحياة.

وآفة الاستبداد قديمة قِدَم المجتمع البشري، كما أنّ تفشّيها أو انحصارها مرتبط بمدى مقاومة المجتمع لها أو تهاونه في ذلك. فهو إذن آفة تمتد وتنحصر تبعا لمستوى المجتمع الثقافي والتعليمي والتوعوي.

إنّ المتابِع لحركة المجتمع يكشف أنّ أدرانًا كثيرة فيه وجب أن تُعالَج وتزول، لأن بقاءها ثم انتشارها يُنذِر بخطر شديد، ويهدد تماسكه بالتفكّك ووحدته بالتّمزّق وسيادته بالانتهاك وحقوقه بالنكران وحَكَامته بالاستبداد وحريته بالاستعباد بل وحتى دينه بالانتقاص.

إنّ المجتمع الذي يرى أنّ الكسب دون عمل وجهد “شطارة” و”ذكاء”، وأنّ تجاوز القانون والقدرة مع ذلك على الإفلات من العقاب “قوّة شخصية” و”قدرة على فرض الذّات”، وأنّ استغلال المنصب في تحقيق المصالح الخاصة الشخصية أو العشائرية أو الجهوية أو الفئوية “تميُّز” قد يستحق التقدير والإجلال والتكريم.

إنّ المجتمع الذي لا يقاوم مظاهر التفسّخ ويسمح بالاعتداء على عناصر هويته تحت مسمّيات كثيرة كالحداثة والعصرنة ومسايرة التمدين والتقدم، ويجعل ذلك قاعدةً وسببا لمظاهر شتى من الإنفاق المُسرف والتبذير الفاحش على تظاهرات ومناسبات لا تُشكِّل أولوية في العيش الآمن الكريم والتنمية الاجتماعية الضامنة للتكافل الاجتماعي في مقاومة الجهل والمرض والفاقة.

إنّ المجتمع الذي يعتقد أنّ المسؤول فيه يُخدَم ولا يَخدِم ويَسأل ولا يُسأل ويحاسِب ولا يحَاسب هو مجتمعٌ يشكّل بيئة جيدة للاستبداد والاستعباد.

إنّ المجتمع الذي يكون فيه المسار المهني للمسؤول، أيّا كانت درجة مسؤوليته، مقدَّمة على خدمة مجتمعه، والذي تراه يهتم بالمظاهر والظهور واختلاق مناسبات الدعاية والشهرة دون التركيز على أداء المسؤولية المُناطة به بإتقان وكفاءة لضمان حقوق الناس في الأمن والسكينة والعيش الكريم، إنّ مجتمعا تسود فيه هذه الظواهر جميعها أو أغلبها هو مجتمعٌ يسير بخطى حثيثة نحو التمكين للاستبداد والاستعباد.

وتصبح مقاومة هذه الظواهر بالتعليم والتوعية والتثقيف والحكامة الرّاشدة الصّارمة المُكرِمة للمُحسن والمشيدة به، المُعاقِبة للمسيء والكاشفة لإساءته حتى يعتبر غيره. وتكون هذه المقاومة برنامجا موحد الهدف لحركة المجتمع الواسع حُكّاما أولا ثم محكومين بعد ذلك.

إنّ المجتمع الذي لا يبذل أيَّ جهد جدِّي في مقاومة هذه الظواهر هو مجتمعٌ مؤهَّل للقابلية للاستبداد والاستعباد. ولا ينفع بعد ذلك التأفّفُ والشكوى من المعيشة الضنك إذا كنّا شهود زور على ما يدور في المجتمع من مظاهر مرضية مدمِّرة له مع مر الأيّام.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!