-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الكتـاب‭ ‬الأخضـر.. والعقـل‭ ‬الأحمـر

الكتـاب‭ ‬الأخضـر.. والعقـل‭ ‬الأحمـر

ما أوتيت من ثقافة علم النفس إلا قليلا، وحتى النـزر القليل من هذه الثقافة، الذي اكتسبته، إنما كان بفضل الدراسات الفلسفية التي حصلت عليها.

وبالفلسفة أيضا تمكنت من دراسة أنواع من إيديولوجيات الحكم السياسي، والقليل من فلسفة علم الجمال، فاطلعت بذلك على أنماط من أنظمة الحكومات الثيوقراطية، والأوليغارشية، والديمقراطية، والاستبدادية، وغيرها. كما استطعت بواسطة علم الجمال، أن ألم بفلسفة الألوان، فأدرك مغزى الأحمر، والأخضر، والأصفر، والأسود.. وانعكاساتها على الواقع المعيش.
      لذلك فعندما تدلهم الخطوب، في عالم السياسة، استنجد -مسرعا- بمعارفي القديمة في علم النفس، وفي علم الجمال، وفي الفلسفة.. لعلني أحظى بتفسير مقنع لما يحدث، فأربط بين الأسباب والحوادث، وأكوّن صورة لما قد تؤول إليه هذه الأحداث.
      غير أن هناك، من السلوك، ما يتمرد على التحليل النفسي السائد، عندما تكون العقدة الشخصية أقوى من القاعدة النفسية. وهناك من الأحداث السياسية الإيديولوجية، ما لا تجد له شبيها في كل أنواع الحكم التي عرفها التاريخ الإنساني، فتقف مشدوها، لأنك تجد نفسك حائرا لإعطاء تفسير لهذا النوع الشاذ من الحكم، الذي لا تنفع معه أية فلسفة، فهو حكم خارج عن كل منطق فلسفي. ونفس الشيء ينسحب على فلسفة الألوان، حيث يصطدم الدارس بألوان مظلومة في معناها وفي مبناها، فتستحيل إلى ألوان باهتة، فاقدة لكل معنى، لأنها لا تخضع لأي ذوق فنّي في‭ ‬علم‭ ‬الجمال‭.‬
      ذلك هو حالنا مع الظاهرة القذافية في ليبيا، وفي العالم. فعبثا نحاول أن نخضع شخصية القائد القذافي لمقومات القيادة، ومتطلبات الزعامة، منظورا إليها بمعايير التحليل النفسي، وذلك أن شخصية، هذا القائد، معقدة التركيب، بحيث لا تحكمها أية منهجية، ولا ينفع معها‭ ‬أي‭ ‬تشخيص‭. ‬ولعلها‭ ‬كما‭ ‬تقول‭ ‬عنها‭ “‬النكتة‭ ‬المصرية‭” ‬ولدت‭ ‬قبل‭ ‬ولادة‭ ‬علم‭ ‬النفس‭ ‬بالذات‭.‬
      وما يقال عن الحاكم، ينسحب على نوعية الحكم السائد في ليبيا. إنه نمط من الحكم يصعب إعطاء وصف له، فهو مزيج من المتناقضات الإيديولوجية، حكومته لا شرقية، ولا غربية، ولا رأسمالية، ولا اشتراكية، والعنوان الوحيد الذي ينطبق على وصفه أنه “بلا عنوان”. والجامع المشترك‭ ‬الوحيد‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬التناقضات‭ ‬هو‭ ‬الاستبداد،‭ ‬والفردانية‭.‬
      فإذا جئنا إلى فلسفة الألوان، اصطدمنا باللون الأخضر مجسدا في كتاب إيديولوجي هو الكتاب الأخضر، والحقيقة أن ما تعلمناه في علم الجمال، هو أن اللون الأخضر يرمز إلى الازدهار، وإلى النماء، وهو ثالث ثلاثة، يذهبن عن القلب الحزن (الخضرة، والماء، واللون الحسن). فلماذا حاد اللون الأخضر عن أصله، فتحول في ليبيا، وعلى يد القائد الليبي، إلى أداة للقمع، ووسيلة للتسلط، وإيديولوجية للاستبداد. ولماذا من بين كل الألوان اختار العقيد القذافي اللون الأخضر، ليترجمه -عمليا- إلى اللون الأحمر، لون الدم، والموت، والحقد، والتنكيل بالشعب؟
      فالكتاب الأخضر، الذي هو رمز الجماهيرية، هذا الإبداع الإيديولوجي الذي أنتجه الثائر معمر القذافي، ضرب كل الأعراف السائدة، وقضى على كل أنماط الحكم البائدة والعائدة، فألغى العمل بالدستور، وشطب على كل حضور للجمهور، وأصبح -دون عباد الله- هو الآمر، والقاهر،‭ ‬والمنصور‭.  ‬
      أظهر الله على يد القائد القذافي علامات الساعة، فتحول شعبه في عهده وبشهادته، إلى “جرذان”، و”مقملين”، ومتعاطي الحبوب… على أن شعب ليبيا هو شعب الأبطال من أمثال عمر المختار وصحبه الأخيار.. كما أنه شعب ينام على الذهب الأسود، وتمتلئ خزائن حكامه بالأورو، الدينار‭ ‬والدولار‭.. ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬فهو‭ ‬شعب‭ ‬محتار،‭ ‬يعاني‭ ‬كل‭ ‬أساليب‭ ‬الظلم‭ ‬والاحتقار‭.‬
‭      ‬فأي‭ ‬اخضرار‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬يملي‭ ‬على‭ ‬عقل‭ ‬صاحبه‭ ‬الاحمرار،‭ ‬احمرار‭ ‬الدم،‭ ‬والقتل‭ ‬والانتقام،‭ ‬والانكسار؟
‭      ‬فالكتاب‭ ‬الأخضر‭ ‬ثورة‭ ‬على‭ ‬الله،‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الألماني‭ ‬نيتشه،‭ ‬وتمرد‭ ‬على‭ ‬الدين‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬سبينوزا،‭ ‬وإلغاء‭ ‬للسنة‭ ‬النبوية‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬مسيلمة‭ ‬الكذاب‭.‬
‭      ‬والكتاب‭ ‬الأخضر‭ “‬فتوى‭ ‬إيديولوجية‭” ‬لتطهير‭ ‬ليبيا‭ ‬من‭ ‬شعبها،‭ “‬شارعا‭ ‬شارعا،‭ ‬وبيتا‭ ‬بيتا،‭ ‬وزنقة‭ ‬زنقة‭”‬،‭ ‬يشن‭ ‬حرب‭ ‬إبادة‭ ‬على‭ ‬شعبه،‭ ‬بالمواد‭ ‬الكيمياوية،‭ ‬وبالتيوس‭ ‬المستعارة،‭ ‬وبطائرات‭ ‬الشعب‭ ‬الليبي‭ ‬نفسه‭”.‬
‭      ‬والكتاب‭ ‬الأخضر،‭ ‬هو‭ ‬الإيديولوجيا‭ ‬التي‭ ‬تبيح‭ ‬قتل‭ ‬المعارض،‭ ‬بكل‭ ‬الوسائل‭ ‬الممكنة،‭ ‬وسجن‭ ‬المخالف،‭ ‬أيا‭ ‬كانت‭ ‬قناعاته،‭ ‬ووصف‭ ‬كل‭ ‬إسلامي‭ ‬بالزنديق،‭ ‬حتى‭ ‬ولو‭ ‬سلمت‭ ‬عقيدته‭.. ‬فأي‭ ‬كتاب‭ ‬هو‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬الأخضر؟
      لقد أعطى القائد القذافي لنفسه، ما لم يعطه لا هتلر ولا موسوليني لنفسه، وما لم يعطه فرعون -قبله-  لملكه… فهو الذي دلت أعماله، كما شهد بذلك مقربوه بأنه صاحب مجزرة سجن بنغازي، وقاتل العلماء كالإمام موسى الصدر، ومذيع إذاعة البي بي سي، مصطفى رمضان، وعالم‭ ‬نفوسه‭ ‬عمر‭ ‬خليفة‭ ‬النامي،‭ ‬وغيرهم‭.‬
      بالكتاب الأخضر أتى العقيد القذافي كل فعل أحمر، ولم يتورع بعد ذلك أن يمتد قلمه ولسانه، إلى القرآن فيحذف منه بعض المفردات، ويتجرأ على السنة فيشكك في صحتها، ويتقول على الصحابة كأبي بكر وعمر، وما إلى ذلك من الأفعال الحمراء التي لم تغفل أي جانب من المقدسات،‭ ‬كحق‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬وحقوق‭ ‬الجماعة‭ ‬الإسلامية‭ ‬في‭ ‬المعتقدات،‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬خفي‭ ‬من‭ ‬المنكرات‭…‬
‭      ‬إن‭ ‬قائد‭ ‬ليبيا،‭ ‬قد‭ ‬نصب‭ ‬نفسه‭ ‬حاكما‭ ‬مطلقا،‭ ‬لا‭ ‬يسأل‭ ‬عما‭ ‬يفعل،‭ ‬ولا‭ ‬يقبل‭ ‬أية‭ ‬مساءلة‭ ‬له‭ ‬ولو‭ ‬كانت‭ ‬مساءلة‭ ‬الشاعر‭ ‬الثائر‭ ‬أحمد‭ ‬مطر‭ ‬الذي‭ ‬يخاطبه‭ ‬بهذه‭ ‬المسألة‭:‬
قلت‭ ‬للحاكم،‭ ‬هل‭ ‬أنت‭ ‬الذي‭ ‬أنجبتنا؟
قال‭ ‬لا‭ ‬لست‭ ‬أنا
قلت‭ ‬هل‭ ‬صيّرك‭ ‬الله،‭ ‬إلها‭ ‬فوقنا؟
قال‭ ‬حاشا‭ ‬ربنا
قلت‭ ‬هل‭ ‬نحن‭ ‬طلبنا‭ ‬منك‭ ‬أن‭ ‬تحكمنا؟
قال‭ ‬كلا
قلت‭ ‬هل‭ ‬كان‭ ‬لنا‭ ‬عشرة‭ ‬أوطان،‭ ‬
وفيها‭ ‬وطن‭ ‬مستعمل‭ ‬زاد‭ ‬على‭ ‬حاجتنا‭ ‬
فوهبنا‭ ‬لك‭ ‬هذا‭ ‬الوطن؟
قال‭ ‬لم‭ ‬يحدث،‭ ‬ولا‭ ‬أظن‭ ‬هذا‭ ‬ممكنا
قلت‭ ‬هل‭ ‬أقرضتنا‭ ‬شيئا
على‭ ‬أن‭ ‬تخسف‭ ‬الأرض‭ ‬بنا
إن‭ ‬لم‭ ‬نسدد‭ ‬ديننا؟
قال‭ ‬كلا
قلت‭ ‬ما‭ ‬دمت‭ ‬إذن‭ ‬لست‭ ‬إلها
أو‭ ‬أبا
أو‭ ‬حاكما‭ ‬منتخبا
أو‭ ‬مالكا
أو‭ ‬دائنا
فلماذا‭ ‬لم‭ ‬تزل،‭ ‬يا‭ ‬أُبن‭ ‬الكذا‭ ‬تركبنا؟
ومتع الله بالصحة أختنا الإعلامية المتميزة السيدة زينب الميلي، فقد كانت -على ما روي لي- أول من وصف بحق الكتاب الأخضر، حينما قالت للعقيد القذافي، إن كتابك يا سيادة العقيد أشبه ما يكون “بالبطيخة” (أي الدلاعة بلغتنا الجزائرية) فهو أخضر من الخارج لكنه أحمر‭ ‬من‭ ‬الداخل‭.‬
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • بدون اسم

    جزى الله الدكتور خير الجزاء
    وليت الشيخ الابراهيمي حيا