الرأي

اللغة العربية والجامعة الجزائرية

غازي عثمانين
  • 3774
  • 51

في حوار مع أحد الأصدقاء الجزائريين، متقاعد كان أستاذا في إحدى الجامعات الجزائرية نتجاذب أطراف الحديث من هنا وهناك، ثم قال لي باستغراب ودهشة “كل دول العالم المتقدمة والتي تحترم نفسها وتحترم لغتها تدرس العلوم والتكنولوجيا بلغاتها الأم”. وبدأ يسرد الدول أمريكا وبريطانيا بالإنجليزية ألمانيا بالألمانية فرنسا بالفرنسية وكل دول أوربا بلغاتها الأصلية ودول الشرق الأقصى ثم عرّج إلى الدول الإسلامية كتركيا وإيران وغيرها وبنبرة حادة قال لي إلا الدول العربية، المشرق العربي باللغة الإنجليزية والمغرب العربي باللغة الفرنسية.
والحقيقة أن الدول العربية أو لنقل أن الأمة العربية من محيطها إلى خليجها تواجه في الوقت الراهن تحديات جمة يعرفها القاصي والداني ولا يمكن إنكارها ليس فقط في التطور العلمي والتكنولوجي، ولكن في كل ما يمكن أن يثبت وجود هذه الأمة أخلاقيا واقتصاديا وثقافيا وحضاريا.
الكل يعرف أن أي أمة لم تصل من الرقي والقوة والعظمة إلا عن طريق قيمها المستمدة من لغتها الأصلية، كما لم يثبت تاريخيا الحديث عن نجاح أو تطوير تنمية اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية بلغة أجنبية. والشعب الذي فقد لغته بفقد حريته واستقلاله. إذن فاللغة هي أساس الشخصية القومية وأساس كل نهضة حقيقية شاملة، وهي ليست فقط مجرد التعبير عن أفكار بل هي جزء من عملية التفكير نفسها وتعبير عن قيم حضارية ثقافية وروحية لأمة ما.
إذن اللغة تمثل الحلقة الأساسية في إثبات وجود واستنهاض أمة ما، وحسب الإحصائيات المنشورة في كتاب “حقائق العالم” الصادر عن الاستخبارات الأمريكية تم تصنيف اللغة العربية في المرتبة الرابعة، حيث نسبة عدد متحدثيها في العالم حوالي 6.6 %، والمقصود هنا هم سكان البلدان العربية كافة. وتأتي قبلها اللغات الإنجليزية ثم الصينية (أو ما يسمى بلغة المندرين) فالهندية.
وإذا أخذنا في الحسبان تعداد المسلمين في العالم، وهو حوالي 2.04 مليار نسمة موزعين على جميع القارات في العالم وفق دراسة أمريكية: “الإسلام الأسرع انتشارا بالعالم”، “الجزيرة نت”، بتاريخ 26/12/2016 ومن باب أن هؤلاء المسلمين يؤدون عباداتهم الدينية باللغة العربية، وهي لغة القرآن الكريم فإنهم يمثلون ما يقارب 28.26% أي حوالي الثلث من إجمالي تعداد سكان الأرض البالغ عددهم حوالي 7.15 مليار. ومن هذا المنطلق تم اعتماد اللغة العربية كلغة رسمية سادسة عام 1974 في الأمم المتحدة.
إذن يجب القول بأن اللغة العربية لم تكن محصورة عند الشعوب العربية فقط بل كانت منتشرة سائدة في مساحة جغرافية شاسعة تمتد من المحيط الأطلسي أندلسيا إلى المحيط الهادي صينيا مرورا بإفريقيا وروسيا. وما زاد للغة العربية شأنا كبيرا وسمعة عالمية هو ذاك الكم الهائل من العظماء والعلماء الذين كانوا الرواد الأوائل في إنشاء الحضارة العربية الإسلامية وفي تقدم البشرية ونهضتها فكريا وعلميا وثقافيا نذكر من بينهم الطبيب ابن رشد، وابن النفيس الذي اكتشف الدورة الدموية، وعالم الرياضيات الخوارزمي الذي جاء باللوغارتميات ويعتبر الأب الـروحي للعلـوم والتكنولوجيا على مر العصـور، وعالم الفلك والرياضيات ابن البناء المراكشي والقائمة طويلة.
واليوم وبعد مرور 56 سنة من الاستقلال لا يزال المجالُ اللغوي لم يشمله التحرر، كما جاء في مقال الخبير التربوي الأستاذ عبد القادر فضيل، لا زلنا نرى وبكل أسف آثار الاستعمار جلية وبكل وضوح ولا حياء في استمرار اللغة الفرنسية وهيمنتها، باسطة نفوذها في شتى المجالات الحيوية للبلاد من الإدارة إلى الصناعة إلى الإعلام وحتى المراسلات بين الوزارات أو بين الوزارات والجامعة، اللهم إلا بعض المصالح الإدارية المرتبطة بالمواطن كمصالح وزارة الداخلية في إخراج بعض الأوراق الضرورية للمواطن أو المحاكم التي تدير جلسات المحاكمة فيها بالعربية. ولا أبالغ إذا قلت إنها توسعت أكثر مما كانت عليه أثناء فترة وجود الاستعمار وأصبح الجزائري مهما كان مستواه الثقافي أو العلمي لا ينطق ببنت شفة كما يقولون في حديثه أو خطابه إلا وأدخل كلمات فرنسية.
وانطلاقا من هذا يجب القول بأن اللغة العربية توجد حاليا ليس فقط في الجزائر ولكن أيضا في بعض البلدان العربية في وضع لا تحسد عليه، إذ يحاك ضدها الدسائس تلو الدسائس، ولا زالت توصف بكل الأوصاف وكل المصطلحات الدنيئة والبعيدة عنها، فهي الناقصة والقاصرة والرجعية والمتخلفة والجامدة وهي ليست لغة علم أو لغة تكنولوجيا، ولم يقف الأمر إلى هذا الحد بل أصبح في الجزائر ما يسمى باللهجات المحلية، وما أكثرهن يتكلم بها بعض الإخوة الجزائريين في مناطق مختلفة من الوطن، ونكن كل الاحترام لهذه اللهجات. والغريب في الأمر أن بعض الإخوة يوّدون وضع إحدى هذه اللهجات أو كما تسمى الأمازيغية في نفس المرتبة التي تمتاز بها اللغة العربية بل وتزاحمها حتى في المدرسة، وأخشى ما أخشاه هو مطالبة بعض الإخوة من الجزائريين حسب المنطقة التي يعيشون فيها وخلال سنوات ليست ببعيدة ترسيم لهجتهم إلى لغة رسمية، وهذه هي الطامة الكبرى. اللغة العربية يا سادة جميلة ولا توجد أية لغة أو لهجة في العالم تصل درجة الامتياز والجمال. فقد أحبها الله وكرمها وأنزل بها القرآن الكريم ولا يمكن مقارنتها بأية لهجة أو لغة في العالم. لقد وحدت الشعب الجزائري منذ قرون عن طريق استقباله وقبوله للإسلام من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه فهي همزة وصل بين كل الجزائريين والحامية والساهرة على وحدتهم.
الكل يعرف أن التعليم في الجزائر بأطواره الأربعة الابتدائي، المتوسط، الثانوي وأخيرا العالي يشكل امتدادا متكاملا، وكل مرحلة مرتبطة بالمرحلة التالية، وإذ كان التدريس في المستويات الثلاثة إلى غاية شهادة البكالوريا يتم باللغة العربية، فالتدريس في الجامعة وأقصد هنا تدريس المواد العلمية والتكنولوجيا فهو على نقيض ذلك، وقد قفز التدريس ما قبل الجامعة رغم كل الدسائس والمزايدات نوعا وكما، وأكبر دليل على ذلك هو نجاح تلامذتنا في الأولمبياد العلمية العالمية في مجال الرياضيات، إذ شاركت الجزائر فيها ثلاث مرات متتالية (2015-2017) وتحصلوا في كل مرة على نتائج مشرفة، كما أخبرنا بذلك أستاذنا المحترم أبوبكر خالد سعد الله في جريدة الشروق اليومي، ومن المفارقات العجيبة أن هؤلاء النوابغ درسوا في المدرسة الجزائرية وباللغة العربية، إذن فالمشكلة لا تكمن في اللغة بقدر ما تكمن في عزيمة التلميذ أو الطالب، وهنا أود أن أرجع إلى زمان التسعينيات حيث أصدر وزير الجامعات آنذاك الأستاذ مصطفى شريف المقرر رقم 288 الصادر في 28 ما أكتوبر 1990 يتضمن إنشاء ما يسمى باللجنة البيداغوجية لتدريس العلوم والتكنولوجيا باللغة العربية على مستوى الوزارة، وتفرعت عن هذه اللجنة لجان فرعية، وكان من مهامها تنظيم وإعداد الشروط اللازمة لتدريس المواد العلمية باللغة العربية، وبالفعل بدأنا بتدريس العلوم الدقيقة من رياضيات وفيزياء وكيمياء بالعربية في السنة الأولى وبالترخيص من دور النشر في الدول العربية قام ديوان المطبوعات الجامعية بطبع كتب بالعربية في مجالات عديدة، ولكن كما يقال تجري الرياح بما لا تشتهى السفن. تم تعيين الوزير سفيرا واستبدل بوزير آخر وهذا الأخير ضرب كل ما قامت به اللجان عرض الحائط، ولم يكمل المشوار كما بدأه سلفه وعادت حليمة إلى عادتها القديمة.
وأود بهذه المناسبة أن أشير أنه من خلال تجربتي الطويلة في تدريس مادة تكنولوجيا النفط ومن دفاعي وغيرتي عن اللغة العربية، وهذا ليس تعصبا قمت بإعداد كتاب في هذه المادة وسلمته للمجلس الأعلى للغة العربية سنة 2012 للمسابقة، وقامت وزارة الطاقة والمناجم مشكورة بقراءة المسودة والتعليق عليه، وفي هذا السياق، أود أن أنوّه بإيجاز بالدور المهم والهام الذي يقوم المجلس الأعلى للغة العربية مشكورا وهو دور خطير وصعب، إذ أخذ على عاتقه أنبل وأشرف مسؤولية وهي حماية اللغة العربية وترقيتها وتشجيع الكفاءات العلمية والتقنية سواء كانوا أساتذة في التعليم العالي أو باحثين لتمكينهم من إصدار كتب علمية أو مجلات كما جاء في حيثيات المجلس.
ومن بين الشائعات التغريبية والغريبة والموقوتة المنتشرة حاليا هي الدعوة إلى تدريس المواد العلمية من رياضيات وفيزياء وكيمياء وتكنولوجية باللغة الفرنسية بدل العربية، معللين بذلك أن التلميذ الجزائري يدرس كل هذه المواد ومواد أخرى من الابتدائي إلى الثانوي بالعربية وعندما يمر إلى الجامعة يصطدم بالتدريس باللغة الفرنسية، وهنا يجد صعوبة في استيعاب وفهم الدروس، وكأن اللغة العربية كما يدّعي أصحاب هذه الشائعات هي السبب الأول والأخير في رسوب الطالب وانحطاط مستوى التعليم في كل الأطوار من الابتدائي إلى الجامعي مرورا بالمتوسط ثم الثانوي. واليوم يحدث في الجزائر ما لم يحدث في أي بلد في العالم يحترم هويته ودينه ولغته، حيث تعيش اللغة الأم ردة وانتكاسات وتراجع حتى في المراحل التعليمية ما قبل الجامعي.
وهنا أفتح قوسا فإذا كان الأمر يخص الرموز فهو كما معروف لدى الدارسين والعلميين أن هناك رموز لاتينية وإغريقية وأرقام عربية وكل مدارس العالم وجامعاته تطبق هذه الرموز والأرقام، بحيث إن الطالب الذي يدرس في أي بقعة من العالم يفهم المقصود من هذا الرمز أو ذاك ويبقى الشرح باللغة التي يدرس بها، فإذا كان الأمر كذلك فأنا من مؤيدي هذا الطرح، أما بالنسبة للغة الأجنبية المستعملة للمساعدة أعتقد أنه لا يختلف عليها اثنان فهي بالطبع اللغة الإنجليزية لغة الانفتاح على كل العلوم واكتساب التكنولوجيات الجديدة. لنذكر أنه يوجد حاليا أكثر من (5000) خمسة آلاف مجلة علمية تصدر جميعها وبدون استثناء باللغة الإنجليزية، ولا أبالغ إذا قلت إن الجزائريين والإخوة المغاربة والتونسيين يجدون صعوبة جمة في نشر مقالاتهم العلمية، بل أصبحوا يطلبون تعميمها وترسيمها كلغة ثانية بعد العربية في التعليم، لذلك أضم صوتي للذين يطلبون من المسؤولين في وزارة التربية الوطنية أن يضعوا نصب أعينهم اللغة الإنجليزية وأن يعطوها الأهمية الكبرى والحجم الساعي الضروري لها، بدءا من الابتدائي إلى الثانوي وأن لا يغامروا كما يشاع حول تدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية، وهذا ليس معناه أننا نحب الإنجليزية ونكره الفرنسية، بل بالعكس يجب علينا أن ننفتح على كل لغات العالم وندرس أكثر من لغة. اللغة الفرنسية أدت ما عليها في القرنين الماضيين في العلوم والتكنولوجيا، وأعتقد أنه حان الوقت لجعل لغة التدريس في الجامعة الجزائرية اللغة العربية مدعمة باللغة الإنجليزية أولا ثم بقية اللغات، ولا أكشف سرا إذا قلت إن الجامعات الفرنسية المحترمة، من شروط الانضمام إليها أن يكون الطالب ذا مستوى مقبول في الإنجليزية. وبهذه المناسبة أوجه نداء إلى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي المحترمة لتنظر في موضوع استعمال اللغة العربية كلغة تدريس في الجامعة بشكل جدي ولو على مراحل.
ملاحظة أخيرة وهي أن وزارة التعليم العالي والبحث العلمي أطلقت أخيرا أبواب مفتوحة على الجامعة لفائدة مترشحي شهادة البكالوريا. وفي إحدى الجامعات كتب على لافتة الإشعار الدعوة إلى الحضور لهذه الأبواب وكانت اللغة المستعملة هي الفرنسية ولا يوجد أي حرف بالعربية وكأن تلامذتنا قادمون من الليسيات الفرنسية وليس من الثانويات الجزائرية.
وفي الأخير أقول كفانا من هذه الخرجات والمساومات والمزايدات على حساب اللغة العربية، فاسترجاعها والحفاظ على مكانتها الأصلية ليس فقط مطلبا وطنيا، ولكنه واجب أمام الله والتاريخ والأجيال القادمة وعلى مسؤلينا مسؤولية كبيرة في حماية هذه اللغة. أما الذين يريدون أن يكيدوا للغتنا فإننا نقول لهم إنكم تسبحون ضد التيار. فالعربية باقية مادامت هذه الأمة مرتبطة بالقرآن الكريم؛ “وأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض” صدق الله العظيم.

مقالات ذات صلة