الرأي

اللّعنة على من غشّ البراءة!

لا شك أن لعلماء الاجتماع رأيا بل نظريات حول الذهنية البائسة التي طبعت أولئك الذين عاشوا ويلات عشرية التسعينيات مقارنة بالذهنية المتفائلة التي كانت تسود لدى فتيان وشباب الستينيات. واليوم ما قول خبراء علم الاجتماع في الذهنية التي سترسخ في عقول أطفال المدرسة الابتدائية خلال العشرية الثانية من الألفية الثالثة وما بعدها؟

لماذا المدرسة الابتدائية؟

ليس سرا بأن الغش قد عشّش وفرّخ في مؤسساتنا التعليمية. ويهمنا هنا الحديث عن الغش الذي يسمح للتلميذ أو الطالب بالحصول على علامة في الامتحان لا يستحقها لأنه نقل المعلومات على ورقة امتحانه نقلا مباشرا من مكان آخر وليس مما استوعبه من الدروس. لقد تفنّن في هذا الغش طلاب الجامعات، و”نزل” إلى المرحلة الثانوية، ثم إلى المتوسطة. والآن امتد إلى المرحلة الابتدائية بشكل خطير وصار الكثير يراه قد امتزج مع “التقاليد”!
لتوضيح ذلك سنذكر هنا بعض التنديدات بهذه السلوكات، وهي مجرد عينة مما نسمع يوميا حول ما يجري في مدارسنا من سوء الأعمال يشترك في تنفيذها أحيانا كلّ من الإداري والمعلم وولي الأمر.
فقد كتب أستاذٌ جامعي من إحدى ولايات الجزائر العميقة هذا النص يوم امتحان “الخامسة” ابتدائي، وذلك بعدما تبيّن له ما جرى في القسم خلال الامتحان: “أيها الأساتذة، أيتها الأستاذات يا من أجبرتم البراءة اليوم على الغش فشوهتهم فطرتهم التي خلقهم الله عليها. بالمختصر المفيد.. لا قَبِل الله صومكُم ولا رفع في الأنام ذكركم. ألعنكم لعنة بريئة براءة الطفل الذي قال لي قبل قليل: أعطونا الحل في السبورة، هبّطت راسي، جاتني المعلمة قاتلي: اكتب واشبيك؟ وقالتلنا ماتقولوش للشرطة ولا نعاودولكم امتحان صعب. أعتذر للفظ الأستاذ الذي ناديتكم به، فلا يشرفه أن يلبسه مثلكم”!
وعقب عليه أحد زملائه بالقول: “والله إننا نختنق يوما بعد يوم عندما نسمع ما يدار في عالم البراءة.. طمستم براءة أطفالنا.. الله يطمس وجودكم”!
واستغرب أستاذٌ جامعي آخر من ولاية ثانية، وهو في نفس الوقت يرأس جمعية أولياء التلاميذ بإحدى الابتدائيات، قائلا: “يكتبون لهم على السبورة ويطلبون منهم نقل الإجابات”، مضيفا: “عندما نحاول التحرك لتوقيف هذا المنكر يقولون (أي الإدارة والأولياء)، الأمر عادي ووطني”! ولاحظ رئيس الجمعية أن هؤلاء نسوا بأننا “نخرّب بيوتنا بأيدينا”، منبهًا إلى أن هذا هو السبب الرئيسي الذي يجعل الكثير من التلاميذ ينتهي بهم المشوار الدراسي في المرحلة المتوسطة!
وفي ولاية أخرى راسل أحد الأولياء مدير التربية منددا بالغش ومبرزا الكابوس التي مرت به ابنته المتميّزة في الدراسة إثر إجراء امتحان “الخامسة” بسبب التلاعب بالعلامات؛ ففي هذه المدرسة تحصل 140 تلميذ على 10/10 من بين 146 تلميذ أجروا امتحان “الخامسة”. والغريب أن أرقام تسجيل هؤلاء “الممتازين” أتت متسلسلة، حسب صاحب الرسالة. وأضاف أن نحو 7 آلاف تلميذ من ولايته تحصلوا على 10/10 في هذا الامتحان، وهي مبالغة مفضوحة في التلاعب بالعلامات.
وقد روى أستاذٌ جامعي آخر يتابع عن كثب هذا الوضع منذ مدة وساخط عليه، أن ابنه عندما أجرى امتحان “الخامسة” عُزل عن بقية التلاميذ (مع تلميذ آخر) وأجرى الامتحان في مكتب من مكاتب الإدارة بدل أن يتم ذلك مع زملائه في الأقسام. والسبب، حسب الراوي، أن التلميذ عُزل كيلا يكون شاهدا لوالده عما يجري في الأقسام في موضوع الغش.

والحل؟

السؤال الذي يطرحه المنشغلون بهذه الآفة التي عمت الوطن: هل السلطات تجهل هذه الممارسات المتفشية الآن في مدارسنا؟ إن كانت تعلم ولم تحرك ساكنا فهذا تواطؤٌ مع الرداءة وسوء الأخلاق تحاسَب عليه إن لم تحاسِب فاعله. وإن كانت لا تعلم فلتتحرَّ ما يجري في المدارس الابتدائية ولتنشر نتائج تحقيقاتها لتنوير الرأي العام حتى تتصدى للإشاعات وفي نفس الوقت تكشف سيّئي الأخلاق الماضين في إهلاك الحرث والنسل.
نحن نتصوّر أن التحرّي في هذا الباب أمر بسيط: يكفي أن يُكلَّف نزهاء من كل ولاية بطرح سؤال (يمكن أن يكون كتابيا) على عيّنة من التلاميذ المنتقلين إلى المتوسط من قبيل: “صف لنا مجريات امتحان السنة الخامسة في القسم الذي كنت فيه” وهذا دون ترهيبٍ ولا ترغيب. وبناء على ما ستدلي به الأغلبية سيتضح الأمر، وتتبيّن الإشاعات المغرضة من الحقائق المرعبة. نتصوّر حينئذ أن المُدانِين من السِلْكين (الإدارة والتعليم) سوف لن يكونوا قلّة في جميع الولايات لأن الداء، حسب ما يتردد في كل مكان، استفحل من دون رادع.
ولذلك، فإن العقاب الجماعي للمسؤولين عن هذا الوضع ليس الحل وإنما يُستحسن تسليط العقوبة الصارمة على عيّنة من كل ولاية ليكون رادعا قويا للجميع خلال السنوات القادمة، أما بقية المتورطين فتوبيخهم سيجعلهم أكثر حذرا وانضباطا وابتعادا عن هذه السلوكات مستقبلا.
نعتقد أن الاهتمام بجانب الغش في المرحلة الابتدائية من الأهمية بمكان لأسباب لا تحتاج إلى بيان.. وقد عبّر عنها بطريقتهم من أشرنا إليهم أعلاه. فهذا النوع من الغش، في مستوى المرحلة الابتدائية، له على مدى متوسط عواقب أسوأ من عواقب تسريب مواضيع البكالوريا رغم ما لهذا الأخير من وقع إعلامي وطني خطير.
وبعد كل ذلك، فرأْينا أن لا حاجة أصلا لامتحان وطني للسنة “الخامسة”، ويكفي الاعتماد على تقييم المعلم لتلميذه: فإذا تجاوزت نسبة النجاح في امتحان وطني حدا معينا فلا حاجة لأن يكون الامتحان ذا طابع وطني! وهذا لا ينفي محاربة الغش بكل أنواعه في المؤسسات التعليمية، ولاسيما في المرحلة الابتدائية.

مقالات ذات صلة