-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

المؤرِّخ والراهن

أحمد بن يغزر
  • 475
  • 0
المؤرِّخ والراهن

يبدو “عالم الأحداث” اليوم وكأنه يتحرك ويتفاعل بتسارع غير مسبوق، ومن المؤكد أنه لا مرحلة سابقة في التاريخ يمكن مطابقتها أو مقارنتها بالمرحلة الحالية من هذه الناحية، قد يكون لذلك علاقة بالتطور الهائل في وسائل تسجيل ونقل “الحدث” وتعميم وسرعة وصوله إلى أوسع قطاع من الجمهور وفي وقت وجيز جدا، بل وأصبح ممكنا نقل الحدث مباشرة صورة وصوتا وهو يقع.

من جهة أخرى يُلاحظ تدافعٌ محمومٌ في الأحداث، حتى أن بعضها صار يُنسي بعضا، وقد تكون الاستراتيجيات الإعلامية في تغطية الأحداث وإبراز بعضها على حساب أخرى -وهي غالبا ما تعكس استراتيجيات وأجندات سياسية عليا خفية- هي التي تقف خلف الاضطراب والذهول والعجز عن وضع الأحداث ضمن سياقات إدراكية وتفسيرية معينة.

وقد أحسن وزير الخارجية الألماني الأسبق يوشكا فيشر في كتابه “عودة التاريخ” عندما لخّص هذا الوضع بقوله: “إن مسار التاريخ يتحدد أحيانا في يوم واحد، أو حتى خلال ساعات قليلة، وفي مثل ذلك اليوم سيصبح بإمكان أي فرد أن يشهد التاريخَ ويعيشه” وهو بالطبع ما لم يكن متاحا بنفس القدر في أي من الأزمنة السابقة.

يفرض هذا التوصيف سؤالا ضاغطا أمام كل المشتغلين في حقل المعرفة التاريخية بكل مستوياتها وهي في تصوري أربعة: الحدث كما وقع، الحديث أو الكتابة عن الحدث، وضع الحدث في السياق المناسب، وأخيرا تأويل الحدث، والسؤال الضاغط هو: أين موقع المؤرِّخ من هذا التحول؟

الجواب التقليدي الذي يُردَّد باستمرار أمام هذا السؤال هو أنه لا علاقة للمؤرِّخ بالأحداث وهي ساخنة، تلك بالدرجة الأولى وظيفة الصحفي، وبدرجة ثانية مهمة المحلل السياسي، أما المؤرِّخ فلا يقترب من الحوادث إلا عندما تصير باردة تماما، أو بشكل أدق عندما تموت، وعادة ما كنتُ أثير انزعاج طلبة التاريخ عندما أخبرهم أن مهمة الباحث في التاريخ –حسب النظرة الكلاسيكية- تشبه مهمة طبيب التشريح، إنه يتعامل حصرا مع الجثث -الأحداث الميتة بالنسبة للمؤرِّخ- التي فقدت كل علامات الحياة.

طبعا يقف خلف الانسياق وراء هذا الجواب حرص على أن يكون التناول التاريخي للأحداث بعيدا عن الذاتية وعن التسرُّع وبشكل خاص بعيدا عن ضغط تقلبات الأحداث الحية وتحولاتها الممكنة؛ فالحدث الحي أو القريب لم يستقر على صورة نهائية، وقد يحدث له في مساره أو في نهايته وحتى بعد ذلك أحيانا ما لم يكن واردا بشكل مطلق، وكل تسرّع في إصدار القراءات التوصيفية أو التحليلية أو التأويلية عليه قد يجانب الصواب، وإذا كان ذلك مقبولا أومفهوما في عمل الصحفي أو في تخمينات القارئ السياسي فإنه يُشكل ثَلمة كبيرة في مُنجز المؤرخ.

مبدئيا لا شك في صوابية هذا المنطق، بل إن ذلك ما يُضفي على عمل المؤرخ الكثير من المصداقية، وهو ما يُتيح له أيضا العمل الهادئ المتفحص البعيد عن كل الضغوط والتحيزات، وخصوصا ضغط اللحظة، وضغط الانفعال الذي يحيط بها عادة، حتى ولو أنه من غير الوارد الجزم بأن كل السرديات التاريخية تلتزم بهذا السقف المعياري، لكن الالتزام الصارم بهذه القاعدة قد يُغيِّب المؤرخ عن واحد من أهم أدواره وهي استخدام “الماضي” لفهم وتفسير الحاضر.

عمليا هذا يعني ان على المؤرخ أن لا يعتبر “الماضي” ملجئا إجباريا لا يُسمح له بمغادرة أسواره، وأن لا يُلزم نفسه بذلك بحجة احتراف المهنة، فالزمن لم يعد زمن الفصل بين الماضي والحاضر والمستقبل، فالتداخل والتفاعل هي ميزة العصر، وحتى المسافات بين جهات العالم صارت أكثر قربا، ألا يُقال باستمرار أن العالم صار أشبه بالقرية؟ قد لا يكون ذلك جديدا تماما لكن تطور وتعدد مداخل ملاحظة الأحداث وفحصها وتوثيقها وهي عناصر أساسية في مهنة المؤرخ صارت اليوم تتيح له ما لم يكن متاحا للأجيال السابقة من المؤرخين.

إدراكُ هذا الدور هو الذي جعل الكثير من أقسام التاريخ في جامعات العالم، ومنذ مدة، تُنشئ تخصصات حول ما يُعرف بالتاريخ “الراهن” أو”الجاري” أو “الساخن” على مستوى دراسات ما بعد التدرُّج، كما أن المؤسسات الإعلامية العالمية أصبحت تُشرك ذوي الخلفيات الأكاديمية التاريخية في برامجها الحوارية حول القضايا السياسية والجيوسياسية الحاضرة.

لا يتعلق الأمر هنا فقط بنظرة المؤرخ إلى نفسه، لكن أيضا بالصورة التي يُشكِّلها عن نفسه عند مختلف المؤسسات العلمية والإعلامية والسياسية والبحثية، فعادة ما يُنظر إليه على أنه مجرد “حكواتي” يُنعش خيال الناس بالحديث أو بالكتابة عن وقائع من الزمن السابق، وفي أحسن الأحوال يُستدعى في مناسبات معيّنة ليثير مشاعر الاعتزاز بالانتماء إلى الوطن أو برموزه.

كل ذلك جيد وهو ما يُجدّد ويُثبت حاجة المجتمع إلى المؤرخ، لكن طبيعة التحولات التي يشهدها العصر، وهي تحولاتٌ للتاريخ حضورٌ واضح في خلفيتها، يفرض على المؤرخ أن تكون له مساحة أوسع في التفاعل مع قضايا الراهن، ليس فقط باعتباره ذاكرة ما وقع في السابق، لكن باعتبار أن نوعية وطبيعة مخزونه المعرفي يساعد على فهم الحاضر وتفسيره، والأهم قدرته على تقديم تصوّرات خصبة بعمقها التاريخي للمستقبل.

ربما يكون الكل لاحظ في خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وهو يبرر قراره بالاعتراف باستقلال منطقتي دونيتسك ولوهانسك الانفصاليتين عن أوكرانيا كيف استدعى التاريخ بشكل مكثف؛ إذ رجع إلى سنة 1917 تاريخ الثورة البلشفية وسياسات لينين في تلك المرحلة، كما أن الغرب بمؤسساته السياسية والإعلامية يتعامل مع ما يقوم به بوتين على أنه سعيٌ حثيث إلى استرجاع النفوذ السابق للاتحاد السوفياتي.

وبنفس المنطق تُفسَّر كل خطوات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في السنوات الأخيرة على أنها محاولات أيضا لإعادة المجد العثماني الذي امتد على ثلاثة قارات لما يقارب الستة قرون، ثقل التاريخ يظهر باستمرار أيضا في العلاقات المتذبذبة بين الجزائر وفرنسا رغم مرور ستة عقود على استرجاع الجزائر لاستقلالها.. وهذا يعني أن التاريخ سيظل عنصرا أساسيا في إدراك الواقع الحاضر المتحوِّل.

إن الحديث عن المساحة الأوسع التي ينبغي أن يستحقها المؤرخ في قضايا الراهن لا تتجه إلى التعامل مع “اليومي” أو مع “الجزئي”، أو مع “الطارئ”، فالراهن أشمل من ذلك، فهو يتضمنها لكنه يتجاوزها إلى سياقات تُسهِّل الإدراك والفهم والتفسير، وإن كانت مهمة الصحفي ترتكز على رصد وتتبع اليومي والجزئي والطارئ والعاجل، فإن مهم المؤرخ أن يضعها في سياقات تفسيرية مناسبة.

إدراكُ هذا الدور هو الذي جعل الكثير من أقسام التاريخ في جامعات العالم، ومنذ مدة، تُنشئ تخصصات حول ما يُعرف بالتاريخ “الراهن” أو”الجاري” أو “الساخن” على مستوى دراسات ما بعد التدرُّج، كما أن المؤسسات الإعلامية العالمية أصبحت تُشرك ذوي الخلفيات الآكاديمية التاريخية في برامجها الحوارية حول القضايا السياسية والجيوسياسية الحاضرة.

والأمر ذاته هو الذي جعل الكثير من الرؤساء والقادة في العالم يحيطون أنفسهم بمستشارين ذوي خبرة في المعرفة التاريخية، ومما يُذكر في هذا الشأن على سبيل المثال أن الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش كان يعقد جلسات مع بعض المؤرخين الأميركيين للتشاور معهم في مسائل السياسة الخارجية، وهو ما كان يفعله أيضا الرئيس أوباما من بعده، ويشغل التاريخ مساحة واسعة في وعي الرئيس الروسي بوتين وطموحاته التي تشغل العالم هذه الأيام وتحديدا من خلال ما يفعله اتجاه أوكرانيا.

لا يقتصر دَين المؤرخ لمجتمعه وواجبه اتجاهه أن يتّخذ زاوية معزولة عنه ليكتب له تاريخه، ولا واقفا على ذاكرته حارسا وحافظا، إنه يدين له أيضا بأن يضع خبرته التاريخية في مساعدته على فهم وتفسير حاضره، وعلى صياغة مستقبله.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!