-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

المحكمة الدستورية الجزائرية.. واقع وآفاق (الجزء 2)

موسى بودهان
  • 548
  • 0
المحكمة الدستورية الجزائرية.. واقع وآفاق (الجزء 2)

1.النموذج الأول– الرقابة القضائية بواسطة هيئة قضائية:

استنادا إلى دراسات علمية وأبحاث أكاديمية لبعض المختصين في القانون الدستوري فإن بعض الدساتير تعهد إلى القضاء القيام بالرقابة على دستورية القوانين، أي فحصها للتحقق من عدم مخالفتها لأحكم الدستور. وحسب هؤلاء الدارسين أو الباحثين فإن هذه الوظيفة أو المهمة “رقابة القضاء على دستورية القوانين” من (صميم اختصاص السلطة القضائية؟)، مردفين: “السلطة القضائية حينما تفصل في دستورية القوانين، إنما تفصل في نزاع طرفاه قانونان أحدهما أعلى والآخر أدنى والحكم الصادر هو حكم لصالح أحد القانونين ضد الآخر”.

ولم يكتفوا بهذا، بل ذهبوا إلى حد القول إن رقابة القضاء على دستورية القوانين لا تنظم بصورة واحدة في جميع الدول بل تنظم بثلاثة أشكال مختلفة لاسيما بعد أن استقر الفقه الدستوري عليها وهي:

-الرقابة عن طريق الدعوى الأصلية بإلغاء القانون المخالف للدستور.

-الرقابة عن طريق الدفع الفرعي بعدم دستورية القانون المطعون فيه والامتناع عن تطبيق هذا القانون.

-الرقابة بطريق المزج بين الطريقتين السابقتين.

وهذه مبالغة كبيرة فيها حق أريد به باطلا، ويكفي هنا طرح السؤال التالي: “أين هو مبدأ الفصل بين السلطات وتخصص كل واحدة واستقلالها عن باقي السلطات كما يقضي بذلك الدستور؟”.

وهذا النوع أو النموذج من الرقابة الدستورية عن طريق القضاء العادي يُعرف بـ”النموذج الأمريكي” لكون الولايات المتحدة الأمريكية هي أول من ابتكرته وطبقته منذ سنوات 1780، 1786، 1787، 1789 انطلاقا من محاكمها العادية في بادئ الأمر، وحتى من غير وجود سند دستوري يقضي بذلك، قبل أن يعدل الدستور الأمريكي وتتكفل المحكمة العليا فيما بعد سواء بموضوع الرقابة على دستورية القوانين أو غيره من المواضيع ذات الصلة وقد أنيطت بالمحكمة العليا عدة صلاحيات فيما يخص الرقابة الدستورية، والتي كانت الانطلاقة الحقيقية لها بداية من سنة 1801 في قضية “ماربوري ضد ماديسون” والحكم الشهير الذي أصدره السيد جون مارشال بشأنها في عام 1803، مما جعل طبيعة عملها يتمحور بين حماية مبدأ سمو الدستور من جهة، وصون الحقوق والحريات من جهة أخرى، كما أن أحكامها لها دور حازم وحاسم في العديد من القضايا الشائكة، مما جعلها تحتل مكانة مرموقة وسط الشعب الأمريكي والعالم بأسره.

وقد أخذت بعض الدول، الأوروبية وغير الأوروبية، نظام الرقابة القضائية على الأعمال التشريعية، واقتبسته من النموذج الأمريكي، إذ ضمّنته في دساتيرها، أي بالنص صراحة على حق القضاء في رقابة دستورية القوانين، ومن ذلك نص المادة 113 من دستور سويسرا لعام 1874 الذي أعطى للمحاكم الاتحادية الحق في رقابة دستورية القوانين، والدستور البوليفي لسنة 1880، والدستور الكولومبي لسنة 1886 الذي يجيز لرئيس الجمهورية حين الاعتراض على أي قانون يقرُّه البرلمان أن يحيله في ظرف ستة أيام على المحكمة العليا للنظر في دستوريته، ويترتب على قرار هذه المحكمة بعدم دستورية القانون اعتباره كأنه لم يكن. وكذلك الدستور النرويجي الذي أنشأ المحكمة العليا سنة 1890، والدستور اليوناني الذي استحدث المحكمة العليا “أريوباج اليونانية” سنة 1904، ويشتمل دستور بنما لسنة 1904 على أحكام مماثلة. وأيضا دستور كل من تشيكوسلوفاكيا والنمسا لعام 1920 الذي نص على إنشاء محكمة دستورية تختص بإلغاء أي قانون يتعارض مع الدستور. وكذلك دستور رومانيا لعام 1923 الذي استحدث محكمة النقض الرومانية، ودستور تشيكوسلوفاكيا لعام 1930، والدستور الفنزويلي لسنة 1931، ودستوري إيرلندا الحرة وألمانيا الغربية لعام 1937، ودستور إيطاليا لعام 1945، ودستور الصومال لعام 1960، ودستور تركيا لعام 1961، ودستور الكويت لعام 1962، ودستور يوغوسلافيا لعام 1963، ودستور ألمانيا الديمقراطية لعام 1968، ودستور السودان لعام 1973، ودستور كريستيانا لعام 1993 الذي أنشأ هو الآخر محكمة لهذا الغرض تسمى “المحكمة العليا الكريستيانية”، وكذلك دستور مصر المعدَّل سنتي 1971 و2014 والذي أخذ بهذه الرقابة ولكن بطريق المزج بين الطريقتين المذكورتين أنفا:

1- الرقابة عن طريق الدعوى الأصلية بإلغاء القانون المخالف للدستور. 2- الرقابة عن طريق الدفع الفرعي بعدم دستورية القانون المطعون فيه والامتناع عن تطبيق هذا القانون”.

مع ترجيح إحداهما عن الأخرى أو المساواة بينهم، حسب الحالة.

  1. النموذج الثاني– الرقابة الدستورية عن طريق هيئة سياسية: دائما بالاستناد إلى دراسات علمية وأبحاث أكاديمية لبعض المختصين في القانون الدستوري فإنَّ بعض الدساتير تعهَّد بالرقابة على دستورية القوانين إلى مؤسسة أو هيئة ذات صبغة سياسية تتولى الكشف عن موافقة أو مخالفة القوانين لأحكام الدستور. وهذه الرقابة قد تمارَس قبل إصدار النصوص القانونية ومن ثم تحول دون نشرها وتطبيقها إذا كانت مخالفة لأي نص في الدستور فتسمى عندئذ بـ”الرقابة السابقة أو القبْلية أو الوقائية” كما هو الشأن في الدستور الفرنسي لعام 1958 المعدل، وقد تمارَس بعد إصدار النصوص القانونية فتؤدي إلى إلغائها جزئيا أو حتى كليا إذا خالفت الدستور وتدعى حينئذ بـ “الرقابة اللاحقة أو البَعدية” كما هو الحال في الدستور الألماني لسنة 1968 المعدَّل.

ويختلف تشكيل هذه المؤسسة أو الهيئة السياسية المختصة بالرقابة على دستورية القوانين تبعا للآلية التي ينظم بها الدستور هذا النموذج من الرقابة من حيث الجهة التي تتولاها وصلاحياتها وكيفيات التعيين أو الانتخاب فيها، بل وتبعا لتسمية هذه الهيئة السياسية المذكورة في حد ذاتها “مجلس، محكمة…”. ومن الدول التي أخذت بهذا النموذج في شكل “المحكمة الدستورية” يمكن ذكر:

-النمسا طبقا لدستورها الصادر عام 1919 أو1920 (اختلف المؤلفون بشأن ذلك).

-البرازيل وفقا للمادة 66 من دستورها الصادر عام 1937.

-يوغسلافيا طبقا لدستورها الصادر سنة 1962.

-العراق وفقا لدستوره الصادر عام 1968. إلى جانب الاتحاد السوفياتي سابقا، تشيكوسلوفاكيا، ألبانيا وفرنسا طبعا.

علما بأن هناك من يعتبر فرنسا، ومن خلال فقيهها الدستوري المعروف ساييس، هي من كانت السباقة إلى وضع الأسس الأولى لهذا النموذج سواء من خلال استحداث لجنة دستورية على مستوى مجلس الشيوخ أو من خلال إنشاء مجلس دستوري يتكفل فيما بعد سواء بموضوع الرقابة على دستورية القوانين أو غيره من المواضيع ذات الصلة باختصاصاته. وذلك بالشكل المنصوص عليه في دساتير فرنسا لأعوام 1852، 1946، 1958 المعدلة. في حين هناك من يقول إن النمسا هي السباقة، دون غيرها، في إرساء النوع “النموذج الأوروبي” والذي ظهر فيها من خلال فقيهها المعروف دوليا “كيلسن هانس” صاحب نظرية “البناء الهرمي للقانون”، أسس أول محكمة دستورية عام 1919.

ويمكن القول إن العديد من دساتير الدول بما فيها الدستور الجزائري الحالي قد أخذت هي الأخرى بهذا النموذج الثاني “الرقابة الدستورية عن طريق هيئة سياسية” بغض النظر عن كونه يعرف بـ”النموذج الأوروبي” أو بـ”النموذج الفرنسي”. ونظرا لما لاقاه كل من النموذجين من تأييد وقبول تارة ومن رفض واستنكار فقهي تارة أخرى، إذ نجد من بين الفقهاء المعترفين بالنموذج الأول والمؤيدين له: دوجي وهوريو وميسترولان. أما المعارضون له فنجد منهم بعض الفقهاء الفرنسيين مثل: “جان جاك روسو، وجورج بيردو، وإسمان، وكاري دي مالبرج، وبارتلمي الذي وصف الرقابة القضائية على دستورية القوانين بواسطة القضاء بأنها “خيالية لما تتضمّنه من فرض القضاء لآرائه على تطورات التشريع”. وهم عموما من الفقهاء الذين ناصروا ودعموا الثورة الفرنسية. وللنموذج الثاني كذلك مؤيدون ومعارضون ولكل منهم حجج وأدلة في ذلك.

ما يهم في هذا النوع أو النموذج  المركّب هو مزجه بين المزايا التي يتصف بها النموذجان السابقان، الأول والثاني، وكذا أخده بالمبادئ التي تحكم الرقابة الدستورية والقضائية، السياسية والقانونية والإدارية، بصفة عامة ومنها مبادئ الشرعية والمساواة والفصل بين السلطات التي نصت عليها كثير من دساتير العالم ومنها الدستور الجزائري الذي قضى في مادته 158 بأن “أساس القضاء مبادئ الشرعية والمساواة والعدل. الكل سواسية أمام القضاء، وهو في متناول الجميع ويجسده احترام القانون”.

ونحن، من غير الولوج لا في متاهات ودواعي هذين النموذجين من الرقابة على دستورية القوانين ولا في أهميتهما وآلياتهما وأنواعهما سواء منها الرقابة السابقة أو ما يعرف بالرقابة القبلية أو الوقائية والتي تتم قبل إصدار النصوص القانونية فتمنعها من الصدور إذا كانت مخالفة للدستور أو سواء منها الرقابة اللاحقة أو البعدية والتي تتم بعد إصدار النصوص القانونية فتعدمها “تلغيها” إذا كانت مخالفة للدستور، ودون التعرض لا لإيجابيات وسلبيات كل نوع من هذين النوعين ولا لأي من هما نعطي الأولوية أو نفضل. نقول فقط، نظرا لكل ما سبق وغيره من آراء مؤيدة وأخرى معارضة، ألا يحق لنا أن نبحث، وبكل جدية، في النموذج الآخر “النموذج الثالث” المقترَح كبديل في هذا الشأن، والذي يمكن استعراضه كما يلي:

  1. النموذج الثالث: الرقابة الدستورية المركبة “القضائية والسياسية والإدارية والقانونية” والتي تتم عن طريق محكمة دستورية يجب أن تكون حتما على شكل هيئة أو مؤسسة ذات طبيعة مركَّبة “سياسية وقضائية، إدارية وقانونية” سواء في تركيبتها وعناصرها البشرية، أو في صلاحياتها ومهامِّها أو في تنظيمها وعلاقاتها أو في سيرها وعملها… هذا النموذج يُعرف بـ”النموذج المركَّب” أو “المتنوع” لكونه النموذج الذي لم تنفرد به أو تحتكره أي دولة من الدول ولا سلطة من السلطات، لا التشريعية ولا القضائية ولا التنفيذية ولا الإدارية ولا القانونية، وإنما هو نموذجٌ حديث قد بدأت تأخذ به، لاسيما مؤخرا، بعض الدول سواء منها تلك التي أخذت بالنموذج الأول وهو الرقابة القضائية عن طريق القضاء العادي، على غرار أمريكا ومن حذا حذوها، أو تلك التي أخذت بالنموذج الثاني أي الرقابة السياسية عن طريق المجلس الدستوري، على غرار فرنسا ومن سلك طريقها. وفرنسا، لولا توقفها عند المجلس الدستوري بصلاحيات مقيدة، كانت ستكون السباقة إلى محاولة إرساء الدعائم الأولى لمثل هذا النموذج الثالث أو المركب، وذلك من خلال ما عرفته وأسمته بـ”البرلمانات القضائية” كبدائل للمحاكم العادية نتيجة للصراع الدائم والمعاناة المحتدمة بين هذه الأخيرة المحاكم والإدارة الملكية في ذلك الوقت والتي كانت تؤثر على سيرها وعملها بتدخلها المفرط في تنظيمها وصلاحياتها تارة بالأوامر وأخرى بمقاضاة موظفيها مما أقنع قادة الثورة الفرنسية بأن هذه المحاكم ستعرقل مشاريعها وتعطل نشاطاتها وإصلاحاتها وحثها، بالتالي، على التقرير بأن يخضع أي خلاف تكون الإدارة طرفا فيه إلى هيئة أو مؤسسة أو جهة غير قضائية، مستندين في تقريرهم هذا إلى مبدأ الفصل بين السلطات كما نظّر له بعض الفقهاء (مونتيسكيو وغيره)، مع تكريس ذلك بقانون رقم 16-24 أوت 1790.

وما يهم في هذا النوع أو النموذج  المركّب هو مزجه بين المزايا التي يتصف بها النموذجان السابقان، الأول والثاني، وكذا أخده بالمبادئ التي تحكم الرقابة الدستورية والقضائية، السياسية والقانونية والإدارية، بصفة عامة ومنها مبادئ الشرعية والمساواة والفصل بين السلطات التي نصت عليها كثير من دساتير العالم ومنها الدستور الجزائري الذي قضى في مادته 158 بأن “أساس القضاء مبادئ الشرعية والمساواة والعدل. الكل سواسية أمام القضاء، وهو في متناول الجميع ويجسده احترام القانون”. ونص في مادته 181 على أن “المؤسسات الدستورية مهما كان نوعها مكلفة بالتحقيق في تطابق العمل التشريعي والتنفيذي مع الدستور، وفي ظروف استخدام الوسائل المادية والأموال العمومية وتسييرها”. كما قضى في مادته 182 بأن “يؤسس مجلس دستوري كهيئة مستقلة، تكلف بالسهر على احترام الدستور وعلى صحة عمليات الاستفتاء، وانتخاب رئيس الجمهورية، والانتخابات التشريعية. والنظر في جوهر الطعون التي تتلقاها حول النتائج المؤقتة للانتخابات الرئاسية والانتخابات التشريعية وإعلان النتائج النهائية لكل العمليات المنصوص عليها في الفقرة السابقة” إلى جانب ما قضت به مواد أخرى في هذا الخصوص.

النموذج الثالث، هو الذي قد يناسب الجزائر لاسيما بعد تكريس المحكمة الدستورية في التعديلات الدستورية المرتقبة، شريطة تكييفها وتدعيمها بتركيبة بشرية مؤهلة، منتخبة وبصلاحيات مناسبة. ولا أعتقد أن هذه الفكرة أو القناعة ستتأثر بتلك التفرقة التي حاول بعض المختصين في القانون الدستوري وضعها بين النصوص القانونية، التشريعية والتنظيمية.

علما بأن هذا الأخير، أي النموذج الثالث، هو الذي قد يناسب الجزائر لاسيما بعد تكريس المحكمة الدستورية في التعديلات الدستورية المرتقبة، شريطة تكييفها وتدعيمها بتركيبة بشرية مؤهلة، منتخبة وبصلاحيات مناسبة. ولا أعتقد أن هذه الفكرة أو القناعة ستتأثر بتلك التفرقة التي حاول بعض المختصين في القانون الدستوري وضعها بين النصوص القانونية، التشريعية والتنظيمية على أن تخضع حسبهم: النصوص التنظيمية للرقابة القضائية وحدها؟ والنصوص التشريعية للرقابة الدستورية، معتبرين ذلك من آثار التمييز بين مجال القانون المنصوص عليه في المادين 141، 142 وغيرهما من الدستور الحالي، ومجال التنظيم المنصوص عليه في المادة 143 وغيرها من ذات الدستور، محاولين الاستدلال هنا بالمادة 161 من نفس الدستور دائما والتي تقضي بأن “ينظر القضاء في الطعون الخاصة بقرارات السلطات الإدارية”. ذلك أن إسناد الرقابة الشاملة “الدستورية والقضائية والسياسية والإدارية والقانونية” للمحكمة الدستورية لا يتنافى إطلاقا مع ممارسة القضاء لصلاحياته الرقابية على أعمال الإدارة أو تخصُّص القضاء الإداري بالفصل في مدى شرعية بعض النصوص التنظيمية “قرارات الإدارة والهيئات المستقلة، أنظمة مجلس النقد والقرض.” وعموما فالمحكمة الدستورية تبقى هي سلطة السلطات جميعا.

يُتبع

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!