-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
باشرت إصلاحات لمواكبة خطّة الإنعاش الاقتصادي

المدرسة الوطنية للإدارة.. مخابر تدريب الوزراء والولاة

إيمان كيموش
  • 10500
  • 0
المدرسة الوطنية للإدارة.. مخابر تدريب الوزراء والولاة

بداية من أوت 2020، اتجهت الجزائر صوب نموذج تنموي جديد يرتكز على مخطط الإنعاش الاقتصادي، وتحرير الإدارة من البيروقراطية، بل، وقد يعتمد مستقبلا على انتقاء شخصيات من أهل الاختصاص لتسيير فروع استراتيجية، مثل الفلاحة والصناعة والسياحة.

وبعيدا عن الممارسات السابقة، حيث كانت تخضع إدارة شؤون الدولة لمنطق البيروقراطية، أصبح دور الإداري يقتصر اليوم على تنفيذ السياسات العامة للدولة، ولا يتدخل خارج تخصّصاته، بغية بلوغ تصوّر “الدولة الحقيقية” أو التي سماها رئيس الجمهورية بـ”الجزائر الجديدة”.

الرئيس تبون أحد خريجيها وتكوين 298 إطار إفريقي سام

وبالموازاة مع ذلك، باشرت المدرسة الوطنية للإدارة، وهي معقل تكوين الإطارات في الجزائر، خطة إصلاحات عميقة في المناهج والتخصصات وتحيين البرامج، تكيّفا مع متطلبات الإدارة التنموية، وتزامنا مع رهانات الاقتصاد والاستثمار والطاقات المتجددة والتنمية المحلية، والتحوّلات التي تفرضها برامج الإنعاش الاقتصادي.

خريج هذه المدرسة لا يعتبر شخصا عاديا عند إيداع سيرته الذاتية، كما أن هؤلاء يحظون بالأولوية في التوظيف نظرا للتكوينات المعمّقة التي يخضعون لها، وطبيعة تلقي علوم الإدارة هناك، والتي لا تشبه باقي جامعات الوطن، من حيث المناهج والمواد والتربص الميداني وحتى مستوى الملتحق بهذه المدرسة.

ويأتي ذلك وسط تساؤلات مفادها “هل مازالت المدرسة الوطنية للإدارة تستجيب لرهانات التنمية أم أن الجزائر ملزمة اليوم بالبحث عن الإطارات في مختلف التخصصات والجامعات، واختيار الوزراء وأصحاب المناصب السامية من معاهد مختلفة، وحسب سياق مسارهم الوظيفي وممكن وفق تنشئتهم النضالية والسياسية أيضا؟

9 آلاف خريج يتنافسون على مقعد في سنة واحدة

تجذب كل سنة امتحانات مسابقة الدخول للمدرسة الوطنية للإدارة “مولاي أحمد مدغري” بحيدرة أعالي العاصمة، آلاف المترشحين من 58 ولاية، فهؤلاء يحلمون بمنصب وزير ووال وإطار سام في الدولة، أو مسؤول في السلك الدبلوماسي، بدءا بالتعيين كمتصرف رئيسي بمجرد التخرج، ليتدرجوا في الرتب وفق سلم ترقية مضمون.

هذا العدد بلغ ذروته قبل سنتين، حيث تنافس 9 آلاف خريج جزائري على الالتحاق بأقسامها، في حين ينتظر اليوم 3 آلاف آخرون، أودعوا ملفاتهم شهر جوان المنصرم، على أحرّ من الجمر تاريخ اجتياز مسابقة القبول شهر سبتمبر المقبل، والتي سيتم عبرها انتقاء 120 تلميذ يمثلون الدفعة 53.

كيف لا، وهذه المدرسة التي تأسست سنة 1964 تخرج منها 7300 إطار، منهم رئيس الجمهورية الحالي عبد المجيد تبون، الذي كان أحد تلاميذ الدفعة الثانية، والوزير الأول أيمن بن عبد الرحمن ووزير الخارجية رمطان لعمامرة وسابقه صبري بوقادوم، وعدد من أعضاء الطاقم الحكومي الحالي والسابقين، ومعظم ولاة الجمهورية، ونسبة كبيرة من الأمناء العامين للوزارات، كما أن المدرسة تزوّد سنويا قصر الدكتور سعدان والرئاسة وأكبر مؤسسات الدولة بما تحتاجه من كوادر، ناهيك عن تكوينها لـ298 من إطارات سامية لدول إفريقية صديقة وجارة على غرار تشاد وبوركينافاسو، بعضها تقلد وظائف عليا.

المعنيون بمسابقة المدرسة الوطنية للإدارة هم خريجو الحقوق والعلوم القانونية والتسيير والاقتصاد والعلوم السياسية، حيث يخضع هؤلاء لامتحان يؤهلهم للانتقاء، شريطة حمل شهادة ليسانس من صنف “أ” “ب”، وبمعدل 12 من 20 الذين تخرجوا من قبل، وهي المعايير الجديدة التي فرضتها المدرسة، يقول مديرها، عبد المليك مزهودة، في تصريح لـ”الشروق”، لضمان توفّر خصال التفوّق لدى الوافدين الجدد، بعد تقييم مستوى المسجلين للتكوين بشهادة ليسانس بداية من سنة 2006.

وكان الانضمام للمدرسة قبل ذلك يفرض اجتياز مسابقة تمس حملة البكالوريا، وتستقطب أصحاب المعدلات العالية التي لم تتدن في سنواتها الأخيرة عن 14 من 20.

وخضعت هذه المدرسة لوصاية رئاسة الجمهورية، لدى استحداثها سنة 1964، وتكفّلت بتدريب إطارات الدولة وقتها، بعد صدور المرسوم الرئاسي المحدّد لشروط الانضمام إليها سنة 1966، في وقت كانت الجزائر تشهد شحا كبيرا في “الكوادر” غداة الاستقلال، فأُسّست هذه المنشأة، بطريقة تحاكي المدرسة الوطنية للإدارة بفرنسا التي أنشأها ديغول عام 1945.

وانتقل تسيير المدرسة سنوات السبعينيات إلى وزارة الداخلية وتخصّصت في تكوين إطارات الإدارة، ثم ألحقت بوزارة الإصلاح الإداري عند استحداثها، لتحال في الفترة الممتدة بين سنتي 1985 و2005 إلى وزارة التعليم العالي التي استرجعت تسيير كافة المدارس وقتها، وبداية من سنة 2006، ونظرا لعودة ظاهرة شحّ الإطارات والكوادر في عدد من القطاعات لاسيما الداخلية والجماعات المحلية، استرجعت هذه الوزارة تسيير المدرسة إلى غاية اليوم، حيث يدرس التلميذ لمدة 3 سنوات، منها سنة كاملة عبارة عن تربصات ميدانية بالإدارات ومصالح ولاة الجمهورية مقسّمة على السنوات الثلاث.

ومعروف أن خريج هذه المدرسة يلتحق مباشرة بمنصب عمله برتبة متصرّف رئيسي، فهذا الأخير يكون قد خضع لدراسة أحد التخصصات المتاحة، وهي الإدارة العامة والإدارة المحلية والتدقيق والرقابة والمالية والاقتصاد أو تخصص التعاون والعلاقات العامة والشراكات.

ويقول مزهودة “تلاميذ المدرسة مشهود لهم بالكفاءة، فهؤلاء ينشؤون على الولاء للدولة في كل يوم يمر عليهم هنا، وعند تعيينهم في المناصب سرعان ما يتكيّفون مع واقعهم هناك”.

محاربة الفساد منذ اليوم الأوّل

ونفى مدير المدرسة فرضية اختلاف ما يجده الإطار أو خريج المدرسة الوطنية للإدارة في الواقع عند مزاولة المهام، وما يتلقاه من مهارات داخل مدرجات التعليم، قائلا: “لا توجد أي فجوة، ولو كانت فهي اصطناعية، ناتجة عن قصور في ذهن الشخص”، فما يتلقاه هناك يطبّقه في الواقع دون أي مفارقات، خاصة وأن ثلث التعليم يكون عبر مزاولة المهام في الميدان، ويتلقى التلميذ خلال هذه الفترة شبه راتب طيلة سنوات التعليم، إضافة إلى تعويضات التربصات الميدانية.

كما تركّز المدرسة على ثقافة الدولة وأخلاقيات العمل الإداري، التي تتكرّر عبر جمل وعبارات وممارسات ورسائل واضحة وأخرى مبطّنة من طرف الأساتذة للتلاميذ بشكل يومي، ويعلّق مزهودة: “لا مجال للغش وللتجاوزات الأخلاقية هنا، ولا تسامح مع المتورّطين في مثل هذه الانحرافات”.

وحسب مدير المدرسة، إذا كانت الجامعات والمعاهد الأخرى تحيل الطالب الغشاش إلى المجالس التأديبية، وتفرض عقوبات صارمة، فالمدرسة الوطنية للإدارة تطرد مباشرة أي تلميذ ثبت غشّه، لزرع ثقافة مفادها “إطار الدولة ممنوع من الخطأ”، وأردف متحدّثا “من يغش اليوم غير مؤهّل لتمثيل الدولة الجزائرية مستقبلا”.

ويتنافس التلاميذ على الرتب الأولى نهاية كل عام، فنصف نقطة في المعدّل قادرة على تغيير مسار المتخرّج، ليُحال المتفوّق إلى قصر الدكتور سعدان مثلا، والأقل تفوّقا إلى إدارة محلّية خارج الولاية، وبعيدا عن الأهل والعائلة.

مناهج ومواد جديدة تحاكي خطط الحكومة

وفي وقت ضاجت الأخبار في فرنسا، بقرار إيمانويل ماكرون، استبدال المدرسة الفرنسية للإدارة، بمعهد أكثر انفتاحا على مختلف طبقات وفئات الشعب هناك، عقب احتجاجات “السترات الصفراء” قبل سنتين والتي انتقدت أداء المدرسة ووصفتها بالفاشلة في تخريج نخب قادرة على فهم الشعب، يقول مزهودة إن المميّز في المدرسة الجزائرية أنها منفتحة على الجميع دون استثناء، بعيدا عن المحسوبية والولاءات، عكس ما يروّج له البعض، فهذه الأخيرة يدرس بها أبناء الجزائر العميقة والوافدين من كل ربوع الوطن.

ويضيف المدير: “المدرسة الجزائرية ليست للأرستقراطيين وأصحاب المال ولا أبناء المسؤولين ولا تنطبق عليها الانتقادات التي طالت فرنسا، الأبواب هنا مفتوحة للمتفوّقين الناجحين في امتحانات القبول والدليل أن هذه الدفعة تضم تلاميذ وافدين من 37 ولاية، فصاحب الاستحقاق من يحظى بمقعد في المدرسة”.

ولم يمنع ذلك، من إقرار إصلاحات جديدة وتحيين البرامج والمناهج، على مستوى المدرسة الوطنية للإدارة، لتكون جاهزة مستقبلا، وفق حلة جديدة تتناسب وخطط الحكومة، وبرامج الإنعاش الاقتصادي ومشروع “الجزائر الجديدة”، وتراعي التغيّرات التي شهدتها الإدارة الجزائرية والمناجمنت في الأشهر الأخيرة، ولكن دون استبدال اسم المدرسة الذي يحمل في طياته تاريخا وسمعة يصل عمرها قرابة الستين سنة، يقول المتحدّث.

وتتضمّن البرامج الجديدة التركيز على الرقمنة والاستشراف والمناجمنت العمومي والتخطيط الاستراتيجي والأدوات الحديثة للاتصال، وهي محاور دراسة في الورشات في انتظار الموافقة عليها وصدورها في النصوص التنظيمية ليتم مباشرة الشروع في تطبيقها.

كما يتم انتقاء مواضيع مذكرات التخرج وفق حاجة الإدارات، حيث تركزت معظم الأبحاث هذه السنة على النظام الميزانياتي الجديد المعتمد على القوانين العضوية، والذي سيدخل حيز التنفيذ بداية من سنة 2023، وهو أحد التحدّيات المتواجدة على طاولة المسؤولين الجزائريين.

ويتم تعيين الأساتذة والمكونين من أحسن أعضاء هيئات التدريس بالجامعات، فمن بين 7 أستاذة دائمين، 5 منهم حائزون على رتبة بروفيسور، ناهيك عن المتعاقدين، وهم إما من أسرة التعليم العالي، أو الإطارات السامية في الدولة ذوي الخبرة الطويلة، في الوظائف العليا برتبة مدير أو مدير فرعي، وبعضهم خريجي المدرسة قبل سنوات.

مدارس منافسة لاختيار إطارات الدولة

وتمكّنت المدرسة الوطنية للإدارة السنة الماضية من تزويد رئاسة الجمهورية والوزارة الأولى  بعدد هام من الإطارات في مناصب مختلفة، رغم أن دورها خلال الفترة الأخيرة تضاءل نسبيا، وبات مقتصرا على تزويد الهيئات المحلية والمؤسسات التابعة للداخلية بالإطارات، لاسيما وأن عديد القطاعات الحساسة استحدثت مدارس خاصة بها تؤهل موظفيها وتشغّلهم مباشرة بعد التخرج.

وأسست الخارجية المعهد الدبلوماسي بالمدنية بالجزائر العاصمة الذي يكوّن إطاراتها، ووزارة الصحة تستعين بخريجي المدرسة الوطنية للصحة العمومية والجمارك تتوفّر على مدارس تكوين الجمركيين، ووزارة المالية تعتمد على مدارس ومعاهد تابعة لقطاعها.

ورغم أن مغزى استحداث المدرسة الوطنية للإدارة غداة الاستقلال، كان تدريب الإطارات حتى يتمكن هؤلاء من العمل بانسجام في مختلف دواليب الدولة، إلا أنها واجهت بعض الانتقادات في السنوات الأخيرة، من طرف خبراء المناجمنت والحوكمة.

هؤلاء شدّدوا على ضرورة تجديد برامجها لاستعادة بريقها، وتعاقدها مع مؤسسات دولية والاستعانة بالكوادر والمسيرين الجزائريين بالخارج، الذين أثبتوا نجاعة وتفوق في مختلف الهيئات الدولية.

ويقول الخبير في مجال الحوكمة الاقتصادية، عبد الرحمن هادف: “المدرسة الوطنية للإدارة لعبت دورا كبيرا في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، حينما أهّلت الكثير من الإطارات الذين أوكلت إليهم مهام تسيير شؤون الدولة والمؤسسات العمومية، على المستوى المركزي والمحلي، وتم القيام بهذه المهام بصفة جيدة، لكن الجزائر اليوم تتموقع في سياق جديد، يلزم هذه الأخيرة بالتحول في المناهج ونوعية البرامج المطروحة”.

محدّث “الشروق” دعا إلى إعداد الكفاءات اللازمة في مجال المناجمنت، مؤكدا: “حتّى الوزير الأول السابق عبد العزيز جراد ـ شغل من قبل منصب مدير بالمدرسة الوطنية للإدارة ـ كان قد تحدث في ندوة الإنعاش الاقتصادي شهر أوت 2020 عن ضرورة تغيير جذري في مهام المدرسة وإعادة تسميتها، لتتحوّل من المدرسة الوطنية للإدارة إلى مدرسة المناجمنت العمومي، مع ضمان تلقين تلامذتها مبادئ الإدارة الحديثة”.

وأضاف هادف “هذا التغيير سيجعل المدرسة الوطنية للإدارة تتجدّد من حيث التنظيم والأهداف، وتبادر إلى خلق تمثيل جهوي وفروع بالولايات”.

مقترحات لدمقرطة الوظائف العامة

وتعوّل السلطات على المدرسة لتهيئة إطارات الدولة، ورفع المكابح عن المؤسسات المتعثّرة، خلال السنوات المقبلة ـ وفق هادف ـ خاصة في ظرف يتسّم بمرور عديد المؤسسات الاقتصادية والتجارية العمومية بأزمات مالية خانقة، تتطلّب توفّر إطارات كفؤة لتسييرها.

أما بخصوص تفضيل اختيار المسؤولين والإطارات العليا وحتى الوزراء من خريجي المدرسة الوطنية للإدارة، فيقول الخبير أن الوظائف العليا للدولة يجب أن تخضع للدمقرطة، وهو ما يترجمه المرسوم الصادر بتاريخ 21 جوان 2021، والذي يتيح لأول مرة الاستعانة بإطارات من القطاع الاقتصادي في الوظائف السامية، في سابقة أولى من نوعها.

وأردف قائلا: “يجب تنويع محفظة الإطارات، والاستعانة بالكفاءات من كل القطاعات والمدارس واختيار شخصيات تتمتع بالمؤهلات التقنية والإدارية والتنافسية”، وختم قائلا “لا نريد أن تكون مناصب الدولة حكرا على خريجي مدرسة واحدة”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!